كتاب " المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية " ، تأليف د. عبد القادر عرابي ، والذي صدر عن دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر عام 2014 .
أنت هنا
قراءة كتاب المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

المناهج الكيفية في العلوم الإجتماعية
ثانياً - العوامل التاريخية والاجتماعية التي أدت إلى إحياء المنهج الكيفي
لا تنفصل المناهج عن الأوضاع التاريخية والاجتماعية والثقافية القائمة في المجتمع، والدليل على ذلك أن الطفرات المنهجية تولدت إما عن التغيرات الاجتماعية العميقة، كما هو حال المنهج الوضعي الفرنسي عند كونت بعد الثورة الفرنسية، وإما كانت تعبيراً عن مصالح إيديولوجية واجتماعية، كما هو الحال في الحرب بين المنهجين الكمي والكيفي في القرن العشرين، أو نشأت عن التراكمات العلمية عبر العصور. إن للمنهج أبعاداً ثقافية وتاريخية واجتماعية وإيديولوجية. فكما كان المنهج اللاهوتي تعبيراً عن الفكر الكنسي، ومرتبطاً بالواقع الاجتماعي والتاريخي، كذلك كان الحال بالنسبة إلى المنهج الوضعي، فهو ردة فعل على ما خلفته الثورة الفرنسية من دمار وخراب، ودعوة إلى النظام والانتظام، نظام العقل وانتظامه. وبهذا، فإن الخلافات المنهجية هي خلافات إيديولوجية، والخيارات المنهجية هي خيارات إيديولوجية، كما يقول يوهان غلتنغ ( Johan Galtung )، (المولود 1930-)[93].
وإذا ما نظرنا إلى المنهج والمنهجية في إطار البعدين الثقافي والإيديولوجي، نجد أن المنهج هو طريقة البحث عن الحقيقة، أو هو الطريقة التي يستخدمها الباحث في دراسته لمشكلة أو موضوع ما، أو كما عرفناه، «إنه طريقة في التفكير والسلوك، إنه عقل المجتمع». «للمنهج إذن مفهوم عام وخاص، أما العام فهو رؤيتنا الشاملة للمجتمع، والخاص هو طرق ومناهج البحث الخاصة»[94].
ونتفق هنا مع ملز ( Mills ) الذي أكد على أنه ينبغي على علماء الاجتماع استخدام التنظير العام والتجريب الخاص. «وبذلك يكون الغرض الأساسي من كل من المنهج والنظرية هو الوضوح في المفاهيم والاقتصاد في الإجراءات والأكثر أهمية الآن، هو إطلاق الخيال العلمي الاجتماعي بدلاً من تقييده»[95].
وبناء على ذلك يعرف ملز المنهج بأنه «الإجراءات التي يستخدمها الباحث الذي يحاول فهم أو تفسير شيء ما، والمنهجية هي دراسة المناهج... أما فلسفة المعرفة فهي أكثر عمومية من المنهجية، ذلك أن ممارسيها مشغولون بالأسس والحدود، أي بطبيعة المعرفة»[96].
أما المنهجية فهي دراسة المناهج، إن منهجية البحث العلمي تعني تقويم نتائج البحث، سواء أكانت تقويمات معرفية داخلية، أي القيمة الأداتية للنظرية، أو التفسير والفرضيات.. إلخ[97]. المنهجية هي الجهود المبذولة من السوسيولوجيين لتوضيح آلية المعرفة النظرية لنشاطاتهم[98]. إنها دراسة مناهج البحث «وفحص ما يجري في عمليات البحث الاجتماعي»[99]. هذا يعني أن للمنهجية أهمية أساسية في البحث العلمي، ولا غنى عنها للبحث العلمي، ذلك أن الباحث يجد نفسه دائماً في مواجهة مسائل منهجية، كأن يوازن بين التفسيرات المختلفة للنظريات ليرى صلاحيتها وقدرتها التفسيرية وأسباب سيادة نظرية على ما سواها[100]، وفي هذه الحالة يكون للباحث منهجيته الخاصة، والأفضل أن يكون معتمداً على منهجية عامة أو برادغما ( Paradigm )، ذلك أن المنهجية الجيدة هي من الموارد العلمية الهامة[101]. تلعب المنهجية ( Methodologie ) دوراً كبيراً في تقدم المعرفة، ولا غنى عنها لعالم الاجتماع، ذلك أن التقويمات المنهجية والقدرات المعرفية تصاحب البحث منذ البداية، وتساهم في تقدم المعرفة و الإبداع العلمي، وتزيد من الفعالية التفسيرية، وتظهر القيم الإبستمولوجية، كقيم الفاعلية، والطابع المجتمعي للمعرفة، وجدليتها، «فالجدل، كما يقول باشلار، يعني إخضاع المبادئ لصيرورة التطور العلمي»[102].
نعود لنقول إنَّ البحث الاجتماعي الكيفي ضارب بجذوره في التاريخ، ولا نتردد في القول إنَّ عملية التفكير الاجتماعي الحديث هي عملية كيفية، نشأت بداية في سياق تأويل النصوص وتفسيرها، وتطورت في القرن التاسع عشر، لتصبح المنهج المعبر عن خصوصية العلوم الاجتماعية. إن عملية إحياء المنهج الكيفي ارتبطت بمجموعة من المتغيرات، أبرزها العقم النظري والمعرفي للمنهج الكمي، وتراجع الصراع الإيديولوجي، وبروز ملامح ما بعد المجتمع الصناعي، ورد الاعتبار إلى مبدأ التأويل الذاتي في علم الاجتماع، ونهاية الخرافات والنظريات الكبرى لعصر الحداثة، كما يقول لوتران[103]، وتعدد العوالم الاجتماعية في العالم الحديث. والأهم من ذلك كله هو الخوف من تسييس العلوم الاجتماعية، الذي ساد إبّان الحرب الباردة. وقد انتهى هذا الخوف بانتهاء الحرب الباردة. هذا فضلاً عن مظاهر التغير الاجتماعي السريع واختلاف العوالم الاجتماعية التي جعلت الباحثين الاجتماعيين يواجهون باستمرار آفاقاً وسياقات جديدة، تعجز النماذج القائمة عن مواجهتها. فبدلاً من الانطلاق من النظريات واختبارها، تتطلب دراسة المواضيع تصورات جديدة عن العالم.
إن أهمية البحث الكيفي تكمن في إدراكه للبحث بوصفه عملية فكرية دائمة حول الوجود الإنساني، الذي لا يمكن فهمه ولا تأويله أوتحليله من خلال جمع البيانات، وتقنيات البحث الكمية، بل من خلال فهم علاقة البحث بالحياة، والباحث بالمبحوث، كعملية دينامية وحيوية، تسهم في فهم صحيح لحياة الإنسان. إن المناهج المستخدمة تتعلق برؤى الباحثين ومدارسهم وثقافتهم ومجتمعهم، كما تتعلق بصدق البيانات والمعلومات التي نحصل عليها مباشرة من الواقع. ويعود هذا المنعطف المنهجي الكيفي إلى فقدان النظرة الشمولية والنقدية في المناهج الكمية، وإلى إهمالها الطابع التاريخي والمجتمعي للمعرفة، «فهي تبقى على السطح، ولا تغوص في عمق النفس الإنسانية. إن حصيلتها هي حدوس عمياء[104]، فهي حدوس عمياء، وتجزيئية، وليست كلية، وعقيمة فيما يتعلق باكتشاف أراض وأفكار وعوالم جديدة وتبحث في جزء من الحقيقة، لا فيها كلها، حتى الإنسان الذي قامت العلوم الاجتماعية لدراسته، فقد شيّأته حتى صار جماداً دون روح، إنها تبقى على السطح، ولا تغوص في أعماق الإنسان. وبالمقابل يؤخذ على البحث الكيفي أنه فلسفي، وغير دقيق، ولا يفيد إلا لأهداف استكشافية[105]، ويرد على ذلك بأن هذا المنهج يكاد يصبح منهج علم الاجتماع، ويستخدم في علم الاجتماع الحضري والبيئي والصناعي والتنشئة الاجتماعية. ولديه حجج نقدية للممارسة وللنظرية ولطريقة البحث. ولما كان علم الاجتماع هو صوت المجتمع، فإن هذا المنهج هو الوسيلة للتعبير عن الإنسان والمجتمع.

