أنت هنا

قراءة كتاب مقالات في الشعر والنقد والدراسات المعاصرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مقالات في الشعر والنقد والدراسات المعاصرة

مقالات في الشعر والنقد والدراسات المعاصرة

كتاب " مقالات في الشعر والنقد والدراسات المعاصرة " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 5

الخطاب الشعري ومعايير خلوده..

يرى بعض النقاد المعاصرين ان خلود الخطاب الشعري يكمن في امتلاكه بعداً فنياً يسمو به فوق حدود الزمان، بكلمة أدق عندما يغدو ذلك الخطاب نموذجاً لا زمانياً، بامكانه النهوض – بما يمتلكه من طاقات متجددة- بعبء الهواجس والرؤى والأفكار والتجارب الإنسانية.

غير ان هذا الخلود لا يمكن ان يتحقق –في رأينا المتواضع- (خارج نطاق النقد) لعلة بسيطة هي ان عملية الإبداع النقدي نفسها تعد أحد المعايير التي تسوغ خلود هذا الخطاب الشعري أو ذاك، من منطلق ان الجهد النقدي هو معادل موضوعي لبعدي الزمان والمكان. إذا أخذنا في الحسبان عناية النقاد في مختلف عصورهم التاريخية بخطابات شعرية بعينها. ومحاولتهم سبر أغوارها، وتحليل محتواها من حيث الألفاظ والمعاني والصور والأسلوب والإيقاع، ولاسيما انهم انتهوا إلى عدها أنموذجاً يحتذى للمقارنة أو الموازنة، فضلاً عن تعدد قراءاتهم لها، واختلافهم في معايير جودتها وأبعادها الجمالية والفنية، وذلك كفيل بأن يمنحها الديمومة في التكرار، أو توالي الاستشهاد بها في المصنفات والمظان والدراسات الأدبية والنقدية، في باب تأكيد حقيقة هذه الظاهرة أو تلك، أو اسناد هذا الرأي أو ذاك وهذا في حد ذاته ملمح من ملامح الخلود الشعري. ثم لا ننسى ان خلود أي خطاب مرهون بدورانه على ألسنة المتلقين بمختلف مستوياتهم واتجاهاتهم وأزمانهم وبيئاتهم. ولعل خطابات (المتنبي) أصدق شاهد على هذه الحقيقة، عندما أتخذ ترديد الناس لقصائده على مر الزمان، معياراً للفخر بشاعريته مودعاً هذا المنطلق في قوله:

وما الدهر الا من رُواة قصائدي

إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشداً

ولم يكن (أبو الطيب) مفرطاً في هذا الفخر أو التباهي، إذ شاطره الرأي بعد نحو قرنين (ابن رشيق القيرواني) – أحد كبار نقاد القرن الخامس للهجرة- في نعته المتنبي بـ(مالئ الدنيا وشاغل الناس) وبقي كذلك هذا الشاعر الكبير إلى يومنا هذا، أثر اكتساب الكثير من نتاجه الشعري سمة المستقبلية أو اللازمانية واللامكانية – ان صح التعبير- وقد اجتمعت في ذلك النتاج الموضوعية والذاتية، الواقع والمثال، الحقيقية والمجاز، الرمز والمباشرة، التقريرية والتصويرية في بنية شعرية تفصح عن جهد فني خلاق يخلب الألباب، واحتواء على التجارب الإنسانية في ابعادها الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والدينية معاً سوّغ اختزان الذاكرة لها، والاحتجاج بها في مواقف مماثلة أو مشابهة للبواعث التي الجات (المتنبي) إلى التعبير عنها شعراً، فمن لا يردد بين الحين والآخر خطاباته المجتزأة من روائع قصائده، منها على سبيل المثال لا الحصر:

وإذا لم يكن من الموت بدُّ

فمن العجز ان تكون جباناً

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الكرام المكارم

ليالي بعد الظاعنين شكول

طوال وليل العاشقين طويل

ويقال الشيء نفسه عن خطابات شعرية آخر (قديمة وحديثة) امتلكت ذات المواصفات المتوافرة في نصوص (أبي الطيب) وقد صدق الرأي النقدي القائل: (ان تغلغل الفاظ القصيدة ولغتها وروحها وصورتها وإيقاعها في وعي المتلقي بعفوية وتلقائية، هو جزء من زمن الشعر فنياً، وخلوداً حضارياً في الوقت نفسه) وهذا لا يعني استلهام الشعراء لغة التخاطب اليومي استلهاماً مباشراً تحقيقاً للخلود، بل حين يجعل الشاعر سامع شعره أو قارئه يقول: هكذا كنت أتحدث لو استطعت ان أتحدث شعراً!

وفي العصر الحديث استجد معيار آخر لخلود الخطابات الشعرية وبقائها نابضة بالحياة، ولاسيما في اختيار بعضها للأداء الغنائي المقرون بلحن موسيقي متفرد أو متميز، يفرض حضوره على سامعيه، من خلال أصوات متفردة أيضاً، ولنا في بعض قصائد الشعراء (أبي فراس الحمداني) و(أحمد شوقي) و(إبراهيم ناجي) و(نزار قباني) وغيرهم شواهد حية على اكتساب تلك القصائد الصفة المستقبلية، بعد تحقيقها المتعة في الاستماع إليها وهي مغناة تفوق ما تحققه قراءتها، وبذلك تغدو المتعة الشعرية معياراً مضافاً من معايير حدوده الخطاب الشعري في تمكنها من تجاوزه خلود الزمانية والمكانية في آن معاً.

الصفحات