كتاب " مقالات في الشعر والنقد والدراسات المعاصرة " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب مقالات في الشعر والنقد والدراسات المعاصرة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مقالات في الشعر والنقد والدراسات المعاصرة
براعة الاستهلال في فن الشعر..
يخطئ من يظن ان الاستهلال أو ما يسمى أيضاً (الابتداء) أو (المطلع) مجرد افتتاح، أو تشكيل لآفاق الخطاب الشعري وعوالمه. لا كونه مرتكزاً لبنية الخطاب ووحدته العضوية والموضوعية، وهذا ما يحرص عليه الشعراء قديماً وحديثاً –فضلاً عن اتخاذهم الاستهلال معياراً لجودة ما تصدح به قرائحهم وداعية لانشراح المتلقي، واستمالة لاصغائه. واستعطافاً لسمعه، بعد ان ادركوا ان ما يصبون إليه في هذا الشأن. رهن بتوافر معايير عدة في البعدين الفكري والفني. أبرزها سهولة اللفظ، وحسن العبارة وصحة الدلالة، وبراعة الايجاز، واشباع المعنى، وتناسب الصدر مع العجز، وارتباط أوله بأخره، ومناسبته لمقام السامع أو المتلقي ولاسيما المقصود بذلك الخطاب.
كما فطن الشعراء إلى أهمية الايقاع في الاستهلال بخاصة، آخذين في حسبانهم ان الشعر بعامة، خفقة تعتمد النغم، واللحن والجرس في تغذية المشاعر والأفئدة، وتحقيق الانفعال والاستجابة، وهذا الإيقاع وما ينجم عنه من صوت وهو مفتاح التأثيرات الأخرى في المنجز الشعري. ومن يدقق النظر ملياً في معظم الاستهلالات في الخطابات الشعرية وبخاصة العمودية منها، يلاحظ فيها ظاهرة (التصريع) دون سائر الأبيات في الأغلب الأعم. والتصريع في أوجز مفهوم (ما كان في البيت الواحد قافيتان أو رويان)، وقد غدا منهجاً فنياً تقليدياً موروثاً على مر عصور الشعر والشعراء الذين طمعوا ان يكون تأثيره أقوى في أذان سامعيهم، ومردوده مستلماً في نفوسهم ولاسيما اتحاد هذا الايقاع في التصريع اتحاداً عضوياً بالوزن واصوات الألفاظ والتركيب وجرس الحروف.
وتكمن أهمية نغمة التصريع في الاستهلال المتولدة من تلك العناصر المؤتلفة، في اطرادها في سائر أبيات الخطاب، بكلمة أدل ان الشاعر يظل أسيرها أي أسير وزن بعينه، وقافية بعينها حتى النهاية أو الخاتمة، بعد ان تملكته هذه النغمة عفوياً أو تلقائياً، وفرضت نفسها في هذا الموقف الشعري أو ذلك مما يوفر للمتلقي الاستماع إلى موسيقى لا الفاظ فحسب ينتظم فيها الايقاع إلى أقصى حد ممكن من دون أي نشاز!
ولنا ان نلتمس تلك المعطيات والملامح والمعايير في هذه المطالع المنتخبة من بعض الخطابات الشعرية القديمة، لعل في مقدمتها استهلال امرئ القيس في معلقته وقد عده النقاد القدماء أفضل ابتداء صنعه شاعر، لأنه وقف واستوقف وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد، وذلك في قوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ومثله في الشهرة استهلال الشاعر (كعب بن زهير) في لاميته التي عرفت بـ(البردة) وقد طغت شهرة القصيدة واستهلالها، على كل ما نظم الشاعر وما استهل به فمن لا يتذكر:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم أثرها لم يفد مكبول
ويقال الشيء نفسه عن نونية (ابن زيدون) التي عارضها أكثر من شاعر، ولا نغالي إذا قلنا ان لاستهلالها أثراً في تعلق الناس بها، وذيوع صيت مبدعها، وصيت من وجه اليها هذا الخطاب:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
ولا نعدم ظاهرة الاستهلال في الشعر الحر إذ حرص كثير من شعرائه على براعة الاستهلال وجودته، ينشدون فيه، ما نشده نظراؤهم، ويفصحون من خلاله عن رهافة حسهم الموسيقى. ومهارتهم الفنية في الصياغة والتصوير. ولنا في استهلال (انشودة المطر) للسياب –على سبيل المثال لا الحصر- ما يقيم القناعة بذلك. فقد ذاعت شهرته لكثرة تردد الألسن:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح يناى عنهما القمر
أثر وعي الشاعر ان القافية هي نقطة القوة والصلابة والايقاع في كيان هذا الاستهلال الذي يخلب الألباب. وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا – في الختام- ان العزوف عن ترديد خطابات بعينها، أو تلاشيها من الذاكرة، مرده إلى عجز بعض الشعراء عن استثارة القلوب بقوادح الاسماع منذ الوهلة الأولى. وذلك ما يميز استهلال من آخر في فن الشعر.