كتاب " مقالات في الشعر والنقد والدراسات المعاصرة " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب مقالات في الشعر والنقد والدراسات المعاصرة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مقالات في الشعر والنقد والدراسات المعاصرة
النص الشعري بين الوضوح والرمز..
بعض قراء الشعر يقف إزاء هذا النص الشعري أو ذلك موقف الحائر والمتردد في فهم مضمونه وتحليل صوره الفنية، وفي أحسن الأحوال إذا توصل هذا البعض إلى استيعابه فانه لا يعدو الا فهماً معجمياً بعد توصل بالمعجمات العربية لشرح مدلول الألفاظ الواردة في ذلك النص. وبذلك نكون قد قيدنا الشعر بشروح جامدة لا حياة فيها، ولعل نظرة إلى شروح المعلقات (السبع والتسع والعشر) – على سبيل المثال لا الحصر- كافية لتأكيد هذه الحقيقة.
بيد ان الواقع خلاف ذلك تماماً، انطلاقاً من مبدأ يقرّ بان للنص الشعري معنيين احدهما ظاهر (قاموسي) والآخر (رمزي) مكنون في الصورة الفنية، وهو معنى أرحب بكثير من الأول الضيق الأفق.
وهذه الرمزية هي معيار الشاعرية الحقة، وبها يصنف الشعراء إلى طبقات، ولا أدل على ذلك من قول أبي هلال العسكري في الصناعتين: (ان ما كان معناه مكشوفاً بيننا فهو من جعله الرديء). وسنورد أمثلة شعرية تؤكد مصداقية رأي العسكري. وصواب ما ننهجه في هذا الاتجاه.
فمثالنا الأول هو قول النابغة الذبياني في مدح جيش الملك عمرو الغساني:
إذا ما غزوا في الجيش حلق فوقهم
عصائب طير تهتدي بعصائب
لا حاجة بنا ان نورد معنى البيت الظاهر للقارئ.. ولكننا نؤكد الرمز المعنى بالشجاعة التي أيقنتها تلك الطيور المحلقة على شكل جماعات تعقب جماعات وهي متأهبة لوليمة سيكون خصوم جيش الملك طعامها.. اما إذا تأملنا مدح المتنبي لسيف الدولة الحمداني حيث يقول:
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
نثرتهم فوق الاحيدب نثرة
كما نثرت فوق العروس الدراهم
فإننا لن نشك لحظة واحدة بمقدار الشجاعة التي أسبغها المتنبي على ممدوحيه.. بيد ان ذلك لا يعني مدحاً بالمتنبي اطلاقاً.. إنما نرمي بالقول إلى ان الرمز غير الغامض في النص الشعري هو أبلغ تأثيراً في نفس المتلقي من ذلك الوضوح المباشر الذي يكتنفه.
ونأخذ مثالاً آخر وليكن بيت عنترة بن شداد العبسي من معلقته الذائعة الصيت حيث يقول:
فتركته جزر السباع ينشئه
يقضمن حسن بنائه والمعصم
إذ يجيء البيت خاتمة لنزال خاضه عنترة مع فارس(كره الكماة نزاله) انتهى بسقوط خصمه صريعاً تتناوله السباع، وتأكل بمقدم أسنانها بنانه الحسن ومعصمه الحسن (وهو المعنى القاموسي الوارد في شرح تلك المعلقة)، ولكننا لا نجد في هذا المعنى شيئاً ذا بال يجعلنا نتعاطف معه ونثني على شجاعة عنترة.. الا عندما نحلل البيت تحليلاً فنياً ونستجلي المعنى الرمزي الذي اراده الشاعر، وقصد اليه، ونلخصه بقولنا ان عنترة لم يختر السباع اعتباطاً، فهو أراد ان يرفع من مقام خصمه بمستوى يوازي تلك السباع بما عرف عنها من قوة وفتك خلال صراعاتها، فضلاً عما تتحلى به من شجاعة تفوق ما عند نظيرها من الحيوانات الأخر.. من الجانب الآخر لا يعقل ان تتناول السباع فرسيتها بهذه الطريقة، وانما أراد عنترة ان تناول تلك السباع للبنان والمعصم كان مثار أعجاب هذه السباع بهما، ولحملها السيوف والرماح التي قاتلت بها قتال الأبطال الكرام الذين يحرصون على الاقدام ولا يخشون مناياه!
وأظن ان المعنى تغير تماماً، واصبحت متأثراً به، في حين لم يعطك المعنى القاموسي الأول أي تأثر وجداني يذكر.. وعندما نسوق بيتاً لجرير في رثاء الفرزدق هو قوله:
فتى عاش يبني المجد تسعين حجة
وكان إلى الخيرات والمجد يرتقي
سنلاحظ الفرق الكبير بين البيتين، فالأول اكتنفته صورة فنية مكنون فيها الرمز الذي اشرنا إليه آنفاً، والثاني فيه ذلك الوضوح المباشر الخالي من صورة فنية يغلفها رمز يأخذ بلبك كما حصل ذلك مع بيت عنترة.
ان هذه الأمثلة الشعرية التي أوردناها هي غيض من فيض، الا أننا نقصد ان ينظر إلى النص الشعري نظرة تخرج من اسار المعنى القاموسي الضيق الأفق، والا غدا الشعر جامداً لا حياة فيه.
وربما يظهر سؤال: وكيف نهتدي إلى اكتشاف الرمز المكنون في الصورة الفنية للبيت الشعري.
والجواب على ذلك يتحدد بمرتكزات أساسية على المتلقي أو القارئ ان يلم بها قبل ولوجه النص الشعري منها:
• ضرورة الإلمام بعصر الشاعر وما يمتاز به من خصائص لفظية ومعنوية.
• الاحاطة بسيرة الشاعر وطبيعة شعره من حيث السمات الفنية والأغراض الشعرية التي يتطرق إليها.
• معرفة باعث هذه القصيدة أو تلك عند الاستشهاد بها لأن هناك نمطاً شعرياً (قصائد ومقطوعات وأبيات) وليد بواعث موضوعية صرف يقوم بقيامها. وينتهي بانتهائها.
• تحديد الغرض الذي نظمت فيه القصيدة.. لأن بعض القصائد تحتوي على أكثر من غرض.. وعندئذ يقتضي من القارئ ان يستوعب (الوحدة الموضوعية) في هذه القصيدة أو تلك، لأن الشاعر تعمد هذا الوحدة وجعل متلقيه يربطون بينها بعد استيعاب تام لها، لأن النظرة الأولى للقصيدة تجعل القارئ يشعر بتفككها وعدم ترابط أجزائها.. وهذا لا يحدث أطلاقاً إذا ما عرفنا ان القصيدة هي مجموعة أبيات تؤلفها!
• كذلك ننصح القارئ ان يستوعب مدلول الألفاظ القاموسية حتى يسخرها في تحديد أبعاد الصورة الفنية وما تحتويه من معنى رمزي يشكل لب النص الشعري.. لا يقف عندها حسب. واضرب مثلاً بشأن الملاحظة الأخيرة كي تتجسد الصورة للقارئ بشكل واضح وجلي.. يقول امرؤ القيس في آخر أبيات معلقته:
كأني غداة البين يوم تحملوا
لدى سمرات الحي ناقف حنظل
فعندما نطلع على مدلول لفظه (سمرات الحي) وتعني (الأشجار الشوكية) ولفظة الحنظل وهو نبات مر المذاق الذي يدمع العين. نربط عندئذ بين حالة الوداع التي كان امرؤ القيس يعيشها وبين تلك الأشجار الشوكية وذلك الحنظل.. فالتلاؤم موجود بينهما.. أي ان الوداع غير محبب إلى النفس كهذا النوع من الأشجار، وهو مر على النفس كمرارة هذا النبات.
نخلص مما تقدم ان النظرة إلى النص الشعري يجب ان تكون وفقاً لهذه التعابير سواء كان هذا النص قديماً أو حديثاً، فلا فرق في ذلك، وعدا هذه النظرة فأننا سنكون مقصرين نحو النص الشعري بعدم إظهار قيمته الحقيقية.