كتاب " مقالات في الشعر والنقد والدراسات المعاصرة " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب مقالات في الشعر والنقد والدراسات المعاصرة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مقالات في الشعر والنقد والدراسات المعاصرة
أخطاء الشعراء وهم أم حقيقة..
هناك رابطة خفية بين الشاعر ولغته تتجسد ابعادها في كون اللغة أصبحت فطرة في نفس الشاعر يغرف منها بلا انتهاء ويحيلها إلى ضرب من النسج، أو جنس من التصوير، يقوم أساساً على إقامة علاقة جديدة بين الألفاظ، مع ابتداع سياق لغوي مملوء بالايحاءات والدلالات ورسم صور مشحونة بالعاطفة والخيال وتلك معايير اللغة الشعرية الحقة التي بامكانها اكتساب الخلود الشعري في تجاوزها حدود عصرها بخصائصها الجمالية، وقيمها الفكرية. وذلك ما أكده (ميخائيل نعيمة) في كتابه ذائع الصيت (الغربال) بشأن أهمية اللغة فهو يراها (كنز الشاعر وثروته ووحيه والهامه، وكلما ازدادت صلته بها وتحسس لها كشفت له عن أسرارها المذهلة، وفتحت له كنوزها الدفينة).
الا ان هذا التصور لابعاد هذه العلاقة بين الشعراء واللغة لا يحول دون وقوعهم في أخطاء نحوية أو لغوية لدى استخدامهم إياها في عملية الإبداع الشعري، وهي أخطاء تمثل استثناء لا ظاهرة مطردة وان كان جمهور العلماء ويعدهم النقاد المحدثون قد التمسوا العذر للشعراء حين عدوا أخطاءهم مباحة، ومما يقع في باب الضرورة الشعرية، لكونهم أمراء الكلام! حتى خلصوا إلى ان هذه الضرورة وتلك الإمارة تتيح ان يكون للشعر عربية غير عربية الأدب المنثور! بيد أننا لو دققنا النظر ملياً في مقولة (الشعراء أمراء الكلام) التي أطلقها الخليل بن أحمد الفراهيدي، لتبين لنا ان (عبقري بصري) قد جوّز للشعراء خروجاً محدوداً خلاصته (اطلاق المعنى وتقييده. وتصريف اللفظ وتعقيده، ومد المقصور، وقصر الممدود والجمع بين لغات الكلام، والتفريق بين صفاته، واستخراج ما كلت الألسن عن وصفه ونعته والاذهان عن فهمه وإيضاحه.. فيقربون البعيد ويبعدون القريب، ويحتج بهم ولا يحتج عليهم)، لا ان يجعلوا الاسم المرفوع منصوباً أو مجروراً أو العكس، أو يجعلوا الفعل المضارع المرفوع مجزوماً بلا حجة كما صنع امرؤ القيس في قوله:
اليوم أشرب غير مستحقب
أثماً من الله ولا واغل
ومما يؤسف له ان جمهور العلماء سارعوا إلى تخريج بعض هذه الأخطاء لا دفاعاً عن الشعراء وإقراراً بمعرفتهم أسرار اللغة إنما اثباتاً لكفاءتهم وعلو شأنهم بأساليب العربية وقواعدها وابنيتها ولهجاتها وافصاحاً للتنافس القائم بينهم. من ذلك مناصرتهم الفرزدق إذ يقول:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال الا مسحتا أو مجلف
إذ أوجدوا تخريجاً لذلك الاسم المرفوع، الوارد في بيت الشاعر: وما يقيم القناعة في ما نحن بشأنه ان (عبد الله بن اسحاق الحضرمي) العالم النحوي واللغوي انفرد وحده بتخطئة الفرزدق. وكان مصيباً كل الإصابة في هذا الشأن، ويقال الشيء نفسه عن بيت جرير:
ان العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فقوله (لم يحيين) حقه الجزم، ولكنه لم يجزم فنادى بعضهم ان ذلك مما يقع في باب الضرورة الشعرية وتناسوا ان الشاعر غلب عليه الإيقاع النغمي في أداة الجزم (لم) وجعله عازفاً عن أداة النفي (لا) التي دونها في النغم مع استقامة الوزن الشعري بها أيضاً. والشواهد الشعرية الأخرى تكاد تقع في هذا المجرى، إذ رغبنا في ما استشهدنا به النظر إلى ان الشعراء القدماء والمحدثين كائنات إنسانية معرضة إلى الوقوع في مثل هذا النوع من الأخطاء، فإذا كان جهابذة اللغة العربية لم يسلموا من النقد في هذه المسألة اللغوية أو النحوية فحري بالشعراء ان يخطئوا أيضاً.
وفي العصر الحديث انبرت الشاعرة والناقدة (نازك الملائكة) تحذر النقاد المعاصرين من التغاضي عن الأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية، وعدم إشارتهم إليها، واحتجاجهم عليها، كأنهم بذلك يفترضون ان من حق أي شاعر ان يخرق القواعد الراسخة وان يصوغ الكلمات على غير القياس الوارد، وان يبتدع أنماطاً من التعابير الركيكة التي تخدش السمع المرهف، ومن هذا المنطلق القت على كاهل الشعراء مسؤولية عدم الاستهانة باللغة العربية والاستخفاف بقواعدها الرصينة إذ ينبغي عليهم ان يعوا ان اللغة مرآة تنعكس فهيا حياة الأمة التي تتكلمها ويملكوا من أمرها مالا يملك الإنسان الاعتيادي من أمر لغته، ويدركوا أنها أداة الخلق الفني.