كتاب " مقالات في الشعر والنقد والدراسات المعاصرة " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب مقالات في الشعر والنقد والدراسات المعاصرة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مقالات في الشعر والنقد والدراسات المعاصرة
اللمحة الشعرية.. رؤية إبداعية...
تتفاوت حظوظ الشعراء ومواهبهم الفنية في نقل الواقع المرئي إلى فضاء الإبداع، فمنهم من اختار أن يلتقط ما هو متداول أو مألوف أو سطحي، دون ان يكون هذا الالتقاط جهداً فنياً خلاقاً يشار إليه بالبنان، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر تشبيه المرأة- على مر العصور- بالبدر والشمس والدرة والدمية والزهرة، والرجل بالبحر والغيث والأسد والجبل والكواكب والنجوم... الخ حتى بدت في أشعارهم نزعة واضحة للمحاكاة والتقليد والتكرار وقد جنى عليهم ذلك ضيقا في معانيهم، من غير اغفال تلك البراعة في صوغها صوغاً جديداً لا يبعث على الملل أو السأم في النفوس.
وهناك من الشعراء من أثر ان يكسر رتابة تردد الفاظ ومعان وصور بعينها بالتقاطه من الفضاء الرحب الطليق المترامي من حوله ما يحدث في طرفة عين أو لمحة بصر ليدل ذلك على ما بلغته حاسة البصر عند بعضهم من الدقة والعمق والتأثير الكبير في تكوين الطبيعة الفنية الخاصة لشعرهم ومما لاشك فيه ان هذا الالتقاط لا يعتمد على العين الناظرة فحسب، إنما على قوة الملاحظة والفطنة والقدرة على استنباط الكثير من الخواطر النادرة، والمعاني المبتكرة والصور الجميلة فهذا امرؤ القيس يتفرد في تصويره طول الليل وفتوره وبطئه بتململ بعير لا يريد ان يبرح مكانه ولو كان تشبيه الليل بالبعير الجاثم في الأساس لما بلغ الشاعر مستوى الإبداع الذي بلغه في الصورة الأولى، وذلك ما نطالعه في قوله:
فقلت له لما تعطي بصلبه
واردف اعجازاً وناء بكلكل
الا ايها الليل الطويل الا انجلى
بصبح وما الاصباح فيك با مثل
ويقال الشيء نفسه عن عنتر العبسي الذي التقط صورة نادرة حتى وقع عليها، إذ شبه الذباب في حركة اجنحته السائبة بروضة حين يسقط برجل مقطوع اليدين يقدح النار من عودين أو زندين فلا تقتدح، فيستمر في قدحه لا يفتر، إلى جانب توظيفه طنين الذباب في صورة سمعية مستوحاة من شارب سكران هزته الذكرى وامالته النشوة مودعاً هذه الصورة في قوله:
فترى الذباب بها يغني وحده
هزجا كفعل الشارب المترنم
غرداً يحك ذراعه بذراعه
فعل المكب على الزناد الاجذم
اما الشاعر (حميد بن ثور) فهو يرسم صورة للذئب قل نظيرها واعجب النقاد اعجاباً شديداً بها من حيث دقتها وبراعتها كما في قوله:
ينام باحدى مقلتيه ويتقي
باخرى المنايا فهو يقظان نائم
ويتملكنا العجب والدهشة إزاء تشبيه السياب اعناق الطيور المذبوحة والدامية التي تجمعها يد صياد باثداء العجائز التي قطعها الغزاة المحتلون، وقد غدت هذه الصورة المتولدة من لمحة خاطفة جامعة مانعة للقضية الموضوعية كلها والجزء الفاعل والمؤثر في نفس المتلقي حين يقرأ هذا المقطع المجتزأ من قصيدة المومس العمياء:
وأعناق الطيور مرنحات من خطاه
تدمي كاثداء العجائز يوم قطعها الغزاه
وحسبنا في هذا المختار من الشواهد ان نعي اين يكمن الإبداع في الشعر ومن هو الشاعر الخلاق؟!