أنت هنا

قراءة كتاب بطعم الجمر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بطعم الجمر

بطعم الجمر

كتاب " بطعم الجمر " ، تأليف أسعد الأسعد ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة ا

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 4

كان أبو عصمت المقدسي يدرك ما يكفي لإرضاء أبي سالم، يملؤه إحساس بالسعادة، حين يصطحبه إلى مقهى أبو عصب عند درجات باب خان الزيت، ويقدمه إلى أصدقائه .

- هذا صديقي أبو سالم، صاحب المزارع والبيارات في العوجا..

يطير أبو سالم فرحاً، وتدغدغه كلمات الرجل الخبيث، ينتقي كلماته جيداً، ويحسن معاملته، طالما أنَّ الأمر لا يمس كبرياءه، ولا ينتقص من مكانته ولا يحط من عليائه، فليأخذ الرجل من معسول الكلام ما يشتهي، وإن كان ذلك ما يرضيه، فتلك أقصر الطرق وأقلّها كلفة إلى قلب الفلاح الطيب أبو سالم..

وحتى يكتمل المشهد، رزق أبو عصمت بغلام فماذا سيقدم أبو سالم هدية لصديقه المقدسي، إنها مزرعة في طرف العوجا..

- ليس هناك من هو أحق منك بها.. إنها هديتي لك.. أرجو أن تقبلها..

أسرع أبو عصمت، مأمور الأراضي إلى مكتبه، وسجّل الأرض على اسمه..

- وها أنا كما ترى أزرع الأرض وأفلحها، الأرض التي كانت ستؤول لي، لو أن والدي رحمه الله...لم يكن بتلك السذاجة، ولو لم يتعلق بوهم علاقته بذلك المقدسي، ابن الذوات، صاحب الحسب والنسب .

كان سالم يقف أمامه، وقد استحضره، بشحمه ولحمه، رآه يخفي عينيه، ويعتصرهما ألماً وحسرة على الأرض التي ضاعت، وحزناً على والده، أخذ نفساً عميقاً، تنهّد وهو يقلب يديه..ترحّم على والده، مسح عينيه بباطن يديه، نظر إلى زيد، واختفى..

أفاق زيد من شروده، فيما كانت الحافلة تشق طريقها نحو الإسماعيلية.. جال ببصره يتفقد الركاب، الذين غط معظمهم في النوم، فيما راح البعض الآخر يطلق العنان لشروده عبر نوافذ الحافلة، لكن الصمت المطبق، كان قاسمهم المشترك، خيّل إليه أن لا أحد نائم، حتى أولئك الذين أغمضوا عيونهم، فالقلق والارتباك كان يرتسم على وجوههم، بل إن عضلات وجوههم، كانت تبدي بعض إشارات تنم على استغراقهم في التفكير وانشغال الفكر .

بطء الحافلة، كان مؤشراً على دخول المدينة، أطلق العنان لعينيه تتفقدان ما تيسر له رؤيته، كأنما يبحث عن شيء ما.. فقد اختفت شواهد الدمار الذي لحق بالمدينة سنوات حرب الاستنزاف يوم كان الإسرائيليون يحتلون الضفة الأخرى من القناة، يومها، تحولت المدينة إلى جبهة قتال، ما أدى إلى رحيل أهلها، ولم يبق فيها غير الفدائيين والمقاتلين.. فتحولت بقايا بيوتها إلى ثكنات عسكرية، طوال ست سنوات، يوم كان الإسرائيليون على بعد أمتار من المدينة، يمطرونها ليل نهار بمختلف الصواريخ وأسباب الدمار، فلم يبق في المدينة حجر على آخر.. يومها، حدثني بعض أهلها، بالعديد من القصص التي عاشتها مدن القناة، ما يشبه أيام حرب السويس، بل وأشد قساوة،.. أطلق العنان لخياله، يشكل صورة لما كان يجري، صورة مرّت عليها عشرون سنة، تكفي لإعادة تشكيلها من جديد، ومحو ما خلّفته، رغم الجرح الذي لم يندمل، وما زال ينزف من أطرافه التي لا تزال مفتوحة على ذاكرة عارية، لم تجد من يحمي عُريَها، رغم تشبثنا بخيوط ذاكرة متعبة، وكأن القصف طالها أيضاً فتهتّكت، وأصابها من الخراب ما يشبه شِباك الصيادين، على شاطئ مهجور، هاجمه القرش، فهجره الصيادون، وهربت الأسماك إلى شاطئ آخر، أكثر أمناً وأماناً .

توقفت الحافلة، ترجّل سائقها، وقبل أن يغادرها، التفت إلى الركاب، وطلب منهم عدم مغادرة الحافلة، إذ عليه إجراء بعض المعاملات قبل السماح للحافلة بعبور القناة إلى سيناء، فيما كان أحد الركاب يشير بيده إلى الضفة الأخرى .

- من هنا عبروا، وذاك خط بارليف..

راح يروي لصاحبه قصة العبور، وتحرير الضفة الأخرى للقناة.. لا يزال يذكر ما حدث، كانت الساعة تقترب من الثانية بعد الظهر، حين سمع الخبر، اعتقد للوهلة الأولى، أنَّ الأمر ليس إلا تمثيلية أو مسلسلاً إذاعياً، وظل كذلك حتى سمع المارشات العسكرية، والأغاني الوطنية، عاد إلى البيت غير مصدّق ما يسمع، فيما ساد الهرج والمرج شوارع رام الله، وراح بعض جنود الاحتلال يطلقون النار ويطلبون من الناس مغادرة الشوارع، معلنين عبر مكبرات الصوت حظر التجوال، لحظات، بدت الشوارع خالية، والمحلات التجارية مغلقة، فيما راحت دوريات حرس الحدود تجوب الشوارع، مطلقة بعض زخات من الرصاص، بين الحين والآخر، في تلك الليلة، لم يسلم أحد من الاعتقال، أخذوا أعداداً كبيرة من الشبان، اقتادوهم إلى المقاطعة، لم يتسع السجن فأقاموا معسكراً في الساحة، وقد اكتظت الخيام ولم تعد تكفي، كان زيد واحداً من نزلاء تلك الخيام، يحاول جاهداً التشبث بالبقعة التي وصل إليها، وسط تدافع السجناء وتراجعهم أمام عصي الجنود وتهديدهم باستعمال السلاح إن لم يتراجعوا، فجأة انطلقت رصاصة، تدافع الشباب، سقط بعضهم، فيما تعثر آخرون بمن سقطوا، نهضوا، وتدافعوا نحو الخيمة، لكن أحدهم ظل يتخبط بدمه، حاول البعض الوصول إليه لكن الجنود على منصات الحراسة المحيطة بالخيام، حالوا برصاصهم دون ذلك..

توقفت الحافلة، صعد أحد الجنود طالباً من الركاب تحضير أوراقهم وجوازات سفرهم.. أفاق من شروده وقد اعتقد للوهلة الأولى أنه ما زال في سجن رام الله، لكنه سرعان ما أدرك أنه في سيناء، وأن الحاجز للجيش المصري قبل الوصول إلى العريش .

الصفحات