كتاب " بطعم الجمر " ، تأليف أسعد الأسعد ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة ا
أنت هنا
قراءة كتاب بطعم الجمر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
حمل حقيبته بيده.. وتوجه مع رمزي إلى الغرفة.. لحظات.. وقف ببابها، جال ببصره أنحاءها.. حمله المشهد إلى معسكر الفدائيين في الدامور جنوب بيروت.. لا تزال الغرفة تحتفظ ببقية من طلائها أول مرة، وربما الأخيرة.. لكن الشيد الأبيض لم يعد كذلك، بفعل عوامل الجو.. وبفعل النزلاء أيضاً.. حدّق في أغطية الأسرة.. لم يستطع التعرف على ألوانها.. همَّ بالعدول عن فكرة قضاء ليلة هنا.. لكنه استسلم حين أدرك غياب أية خيارات أخرى.. تقدم نحو السرير الذي كان رمزي يشير إليه.. ألقى حقيبته على السرير وراح يبحث فيها عن منشفة وما لديه من صابون وأدوات الحلاقة وفرشاة أسنانه.. وتحضّر لأخذ حمام سريع.. استأذن من رمزي وأسرع إلى الحمام.. فيما جلس رمزي على حافة السرير يقلّب أوراقه كأنما يبحث عن شيء ما، أو ربما خطر بباله أن يتأكد من عدم ضياع أو سرقة أي منها.. عاد زيد إلى الغرفة، وقد بدا عليه النشاط وكأنه لم يأخذ حمّاماً منذ أشهر.
- هناك مكتب ارتباط في الجانب المصري، علينا مراجعته عّلنا نجد لديهم ما يفيدنا.. قال رمزي، وهو يلم أوراقه، دسَّ بعضها في جيبه، وأعاد بعضها الآخر إلى الحقيبة، نظر إلى زيد كأنما يطلب إليه أن يتبعه .
- إلى أين ؟!.. سأل زيد رمزي، فيما كان منهمكاً في جمع حاجياته القليلة، وإعادتها إلى حقيبته .
ألقى زيد نظرة سريعة على المكان، كأنما يحفظ تفاصيله، ليتعرف على سريره وغرفته حين يعود للنوم، وانطلق مسرعاً نحو رمزي، الذي سبقه إلى باب الحوش، توقف هناك، متبادلاً الحديث مع رجل، حاول زيد التعرف إليه لكنه أدرك أنه لم يلتقيه قبل ذلك..
رد التحية، وواصل سيره ببطء، قبل أن ينتبه إليه رمزي، ويدعوه للتعرف على مرافقه .
- هذا أبو العبد، يعمل في إدارة شؤون العائدين، وهذا زيد، صديقي منذ زمن طويل، ينتظر العبور إلى غزة.. واصل رمزي حديثه مع أبو العبد، دقائق سلَّم عليه، تبعه زيد وواصلا سيرهما..
- لا حاجة بنا للذهاب إلى الارتباط المصري، فقد أخبرني أبو العبد للتو، بأن دورنا للعبور إلى غزة، يحين بعد ثلاثة أيام، هناك ضغط شديد، والإسرائيليون كعادتهم يضّيقون على الناس.. قال رمزي وهو يطوي ورقة في جيبه..
- وهل لهذه الورقة علاقة بالأمر؟!
- نعم.. إنها تصريح العودة.. سوف يأتي أبو العبد بعد ثلاثة أيام، لاصطحابنا إلى المعبر .
- ثلاثة أيام ؟!..
- على الأقل، نحن نعرف الآن متى سيحين دورنا.. انتظرنا سنوات، لا بأس من الانتظار ثلاثة أيام أخرى.. لا ضير يا صديقي.. فلننتظر..
- وهل نملك غير ذلك؟!..
- تعال إذن نبحث عن شيء نفعله خلال هذه الأيام الثلاثة .
- وماذا سنفعل في رفح ؟!..
- اسمع.. قيل لي أن هناك بعض المقاهي المنتشرة على الشاطئ.. تعال نبحث عن سيارة تقلنا إلى هناك.. علَّ السائق يعرف بعضها فيدلنا على مقهى مناسب..
لم يستغرقهم البحث عن سيارة وقتاً طويلاً، فالمدينة صغيرة، والمنطقة قريبة من مركز العبور، وتعج بسيارات الأجرة في هذا الوقت.. استقلا سيارة الأجرة باتجاه البحر.. وانطلق السائق بهما، بعد أن عرف حاجتهما.. فيما زيد ينظر إليه، ويراقب حركاته.. دقائق قليلة، توقفت السيارة أمام مقهى تفوح منه رائحة السمك..
- يبدو أننا وصلنا، قال زيد .
- هذا مقهى ومطعم.. هنا تجدون أطيب الأسماك.. قال السائق معقبّاً .
- واضح.. ردَّ رمزي، وقد وصلت إليه رائحة السمك المشوي .
ترجّلّ زيد ورمزي من السيارة، فيما سبقهم السائق إلى صاحب المقهى..
- إنه يبيعنا.. قال زيد مخاطباً رمزي .
- إنها كذلك يا صديقي.. ردَّ رمزي وواصل حديثه معقباً..
- أرأيت كيف كان يقود السيارة ؟!
- هنا، نحن على مشارف الصحراء.. لا فرق بين السيارة والجمل..
- عملياً.. كلاهما ركوبة !!
دخلا المقهى، وهما يبتسمان.. فيما تقدم منهما صاحب المطعم.. رحب بهما ودعاهما إلى الدخول مشيراً بيده إلى طاولة قريبة من نافذة كبيرة تطل على البحر.. بين سمك وشاي ونرجيلة.. أمضيا سحابة ذلك اليوم، وقد أحسّا بحاجة إلى الاسترخاء.. حاول صاحب المطعم إقناعهما باستئجار شاليه يملكه على البحر.. حاول زيد إقناع رمزي بالأمر.. لكنه ما لبث أن تراجع حين تذكر موعدهما مع أبو العبد.. ما رأيك لو بحثنا عن أبو العبد، وطلبنا إليه أن يأتينا بعد ثلاثة أيام هنا ؟!.. سأل زيد رمزي..
- وأين سنجد أبا العبد ؟!
- نسأل عنه في مكتب الارتباط.. لا عليك.. اترك الأمر لي..
- لماذا لا نبيت ليلتنا في النزل.. فقد دفعنا أجرة ليلتنا.. ثم نعود في الغد لنقضي ليلتين هنا؟!.
توجه رمزي إلى الرجل وقد استحسن فكرة زيد.. دفع له خمسين جنيهاً عربوناً، على أن يعودا في اليوم التالي.. نظر إلى زيد، وخرج يتبعه زيد، استقل سيارة أجرة كانت تنتظر مع غيرها زبائن المقاهي و المطاعم المنتشرة على الشاطئ، وتوجها إلى النزل.. استراحا قليلاً.. وخرجا يبحثان عن أبي العبد.. توجها إلى مكتب الارتباط، كان أبو العبد وبعض زملائه يدخنون النرجيله، نهض أبو العبد حال رؤيته رمزي، حياهما، فيما بدأ رمزي يشرح له تفاصيل عنوانهم الجديد، راقت فكرة المقهى والشاليه لأبي العبد، تدخل زيد قائلاً..
- زورونا تجدوا ما يسّركم..
ضحك ثلاثتهم، تصافحوا وغادر زيد ورمزي مكتب الارتباط على وعد من أبي العبد بزيارتهم ليلاً في المقهى.. فيما كان رمزي وزيد يهمّان بالخروج للبحث عن سيارة أجرة.. استدرك أبو العبد، وطلب إليهما الانتظار قليلاً.. عاد برفقة رجل آخر.. تبين لهما بأنه سائق إحدى سيارات مكتب الارتباط.. حين طلب إليه أبو العبد أن يوصلهما إلى وجهتهما، شكراه من جديد واستقلا السيارة إلى المقهى.. كانت العتمة تنتشر في المكان.. الشوارع لم تر الإسفلت منذ أن شقتها السيارات العسكرية والدبابات أيام كانت تلك المنطقة معبراً لها، في طريقها إلى صحراء سيناء، بعضها لا يزال منتشراً في المكان، معطّلاً، أو بقايا هياكل من حديد ثقيل، لم يستطع لصوص الخردة فكّها وأخذها لبيعها، كانت سيارة الجيب العسكرية الروسية الصنع، تنطلق عبر الطرقات الترابية، فيما تشبث زيد ورمزي بمقعديهما، وقد اطمأنا قليلاً حين سمعا السائق يبلغهما بأنهما سيعبران إلى الطريق المعبّد بعد قليل.. تنفسّا الصعداء، عندما أحسّا بالسيارة تتوقف عن التأرجح والاهتزاز، وتنساب بسلاسةٍ افتقداها منذ انطلاق سيارة الجيب من مكتب الارتباط، لحظات.. توقفت السيارة أمام المقهى.. ترجلَّ زيد ورمزي، شكرا السائق وتبعا رجلاً هب لاستقبالهما ودعاهما مرحباً بهما، فيما كان آخر يتقدم منهما مرحباً، مشيراً بيده إلى الطاولة نفسها قرب النافذة .
- إنها محجوزة لكما..
اصطحبهما صاحب المقهى إلى الطاولة، مواصلاً ترحيبه بهما على الطريقة المصرية.. جال زيد ببصره أنحاء المقهى ورد على الرجل !
- يبدو أن المقهى كله محجوز لنا..
ضحك الجميع فيها راح صاحب المقهى يفسّر غياب الزبائن في مثل هذا الوقت، أسند زيد يده على حافة النافذة، وأطلق العنان لناظريه، تعانق البحر، كأنها تبحث عن مركب يحمله إلى حيث لا يدري، إلى وطن أمضى حياته يسعى إليه، حتى قبل طرده منه..
- لزج هذا الوطن.. كلما اقتربت منه.. انزلق من بين يديك .
- أنت لا ترى الأمور كما هي.. الوطن باقٍ هنا، لم يهرب، أنت الذي هربت..
- لكني لم أهرب.. أنت تعرف أنهم طردوني ولم أكن أملك البقاء، لقد أبعدوني إلى لبنان.. وأنت تعرف أيضاً كم مرة حاولت التسلل والعودة إلى رام الله.. كم مرة كدت أموت، بل إني رأيت الموت مرات ومرات.. كل ذلك من أجل أن أعود.. لكنه مازال يرفضني..
- وطنك لا يرفضك يا عزيزي... بل إن هناك من يحبه أكثر مني..؟!.. لا، لا.. لا أصدق أن أحداً يحبه أكثر مني..
- الحب يا عزيزي ليس كلاماً، وقصائد تطرزها كل يوم في حب الوطن.. الحب ليس انتحارك، وليس مظاهرات أمام عدسات المصورين.. حب الوطن يا عزيزي، ليس خطاباً في حشد من الناس تخدعهم بمعسول الكلام وحلوه.. حب الوطن.. ثقافة وتربية لم نتعلّمها بعد.. حب الوطن ليس شعارات وهتافات في الشوارع، ليس موتاً مجانياً .
- ومن قال إنه موت مجاني.. نموت من أجل أن يحيا..
- نعم.. نموت جميعاً ويحيا الوطن !! وما حاجتنا للوطن، بعد أن نموت جميعاً ؟!..
- ماذا تريد أن تشرب ؟.. زيد.. ماذا تريد أن تشرب ؟..
أفاق زيد من شروده على صوت رمزي..