كتاب " بطعم الجمر " ، تأليف أسعد الأسعد ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة ا
أنت هنا
قراءة كتاب بطعم الجمر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
- أريد أن أشرب شيئاً يحملني إلى غزة.. ولا أصحو قبل أن أصل هناك .
- فهمت.. و لك ما تشتهي.. شرط أن تبقى معي، ولا تهرب كعادتك..
- ليتني أستطيع الهرب..
- إلى أين ؟!
- لا أدري، المهم أن أخرج من رفح..
- سنعبر إلى غزة.. هناك يا صديقي.. بعد يومين سنكون على بحر غزة.. وسنشبع من سمك أبو أحمد..
حملته تمنيات رمزي و تطميناته إلى مطعم غزة، تذكّر أبو أحمد.. طباخ السمك الذي لم تفارقه صورته.. بضخامته وكرشه المنتفخ أمامه.. ويداه السحريتان..
- أتعلم يا رمزي.. لم أذق مثل سمك أبو أحمد هذا، كنت في أفخم المطاعم في بيروت والقاهرة وحتى في أوروبا.. ولم أجد طعم السمك الذي كان يعدّه لنا أبو أحمد.. آه كم أشتهيه الآن..
- سنكون هناك بعد يومين.. لا عليك يا صديقي سنذهب إلى مطعم غزة، وسنشبع سمكاً..
- ترى ماذا حلَّ بصاحب المطعم، صديقنا محمد آل رضوان .
- سمعت من أحد الأصدقاء انه توفي منذ سنتين .
- هل تعرف أنَّه كان شاعراً وأديباً، كنا نجتمع في مطعمه، شلة من الأدباء والمثقفين.. نناقش كتاباً جديداً، أو نقرأ بعض ما كنا نكتبه في تلك الأيام..
- كنا نلتقي في مكتبة جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، مازلت أذكر ذلك..
- كانت أياماً حالكة السواد، لكنها غنية بالثقافة والفنون.. في تلك الأيام بدأنا نضع ثقافتنا ونشكّل هويتنا الوطنية.. هزَّ رمزي رأسه مؤيداً.. فيما كان يطلب من النادل نرجيلتين وبعض المقبلات..
مضى الوقت ثقيلاً، رغم أن زيداً يعشق البحر، ويحب التأمل في موجه، والغوص في أعماقه، وأبعاده المترامية، كان يتسلل وحيداً إلى شاطئ يافا، يجلس قريباً من العجمي، ويطلق العنان لأحلامه، يحتفظ بدفتر صغير في جيبه، يدّون فيه خاطرة أو فكرة كانت تنمو وتكبر أحياناً، فيكتب قصيدة، أو نثر يبث فيه ما يعتلج بداخله من خوالج متكسرّة، أو حلم غير مكتمل، يبحث في موج يلهث وراء موج، يلتحم ببعضه، ويستلقي على شاطئ يتعطش رمله لعناق البحر قبل أن يذوب فيه حاملاً معه ما تبقى من حلم حاول جاهداً أن يكمله.. لكن الموج كعادته.. كان أسرع في ابتلاع الحلم.. والحئول دون اكتماله.. في تلك الليلة.. جاء إليهم أبو العبد.. تناول بعض المشاوي وشرب ما تيسر من الشراب وغادر المقهى بعد أن وعد بلقائهما في اليوم التالي..
انضم صاحب المقهى إلى زيد ورمزي.. وهي حالة تنم عن إحساس بالرضى وتواصل روحي في السلوك، يتشابه فيه أصحاب المقاهي والمطاعم في كل الدنيا..
عندما همَّ زيد ورمزي بالمغادرة.. كانت الشمس تستعد ليوم جديد.. وقد بدت سعف النخيل تعانق الضياء القادم من الشرق.
- لماذا لا تبيتا هنا ؟!.. نظر زيد إلى رمزي معقبّاً .
- لاشيء لنا في النزل.. وحقائبنا معنا، فلماذا نعود إلى هناك؟!
استعان صاحب المقهى بأحد عماله لمرافقة ضيفيه إلى الشاليه، حيَّاهما متمنياً لهما نوماً هادئاً.. أمضى زيد ورمزي يومين هادئين، مستغرقين سحابة ذلك اليوم في نوم لم يسبق لهما أن استغرقاه منذ وقت طويل.. ولولا نباح كلب في الجوار، لاستغرقا في نومهما حتى آخر النهار، أفاق زيد ونهض مسرعاً متبيناً ما يجري، أطل من نافذة الشاليه، لكنه تراجع حين رأى أحد العمال يحاول إبعاد الكلب عن المنطقة، فيما يلحَّ الكلب في عوائه، وكأنه يؤكد وجود غرباء في الشاليه، زاد الكلب من شراسته، وتقدم نحو باب الشاليه، تقدم زيد بحذر نحو الباب، أطل برأسه من شق صغير، ما دفع الكلب إلى التقدم نحوه محاولاً الهجوم على زيد، فيما انطلق العامل يرشق الكلب بالحجارة، وينهره بعصا طويلة التقطها من الجوار، التقت عينا زيد بعيني الكلب.. حدّقا ببعضهما، لحظات، بدأ الكلب بالتزام الهدوء و الاسترخاء.. أشار إلى العامل بالابتعاد، والكف عن ملاحقة الكلب.. كان رمزي في الأثناء، يقف خلف زيد، طلب منه زيد أن يعطيه أي شيء للكلب.. ارتد رمزي يبحث عن شيء.. فيما زيد يتعجله.
في الأثناء وقع نظر زيد على طبق مغطى قرب الباب، مدَّ يده بحذر يستطلع الأمر، ليدرك أنَّ أحدهم أحضر فطوراً لهما ووضعه أمام الباب، سحب الطبق إليه، ألقى بما فيه من قطع اللحم باتجاه الكلب، الذي هجم على اللحم يلتهمه وقد هدأ.. أشار زيد إلى العامل بالابتعاد عن المكان.. لحظات لم يتبقَ شيء مما ألقاه زيد للكلب، فيما وقف الكلب مسترخياً، يطل برأسه نحو زيد، كأنما يستجديه المزيد.. بينما وقف زيد يشير إليه بحركات تؤكد للكلب بأنه ألقى إليه بكل ما لديه.. انسحب الكلب بعيداً، كأنما أدرك صدق زيد.. و بأنه قدَّم إليه فطوره، ولم يبق لديه شيء، لكنه لم يشبع.. فراح يبحث عن طعام في مكان آخر.. تنفس زيد ورمزي الصعداء.. واطمأنا إلى رحيل الكلب وابتعاده.. فخرجا من الشاليه.. يبحثان عن نادل يحضر لهما قهوة وطعاماً.. استعداداً ليوم جديد..
لم يغادر زيد ورمزي الشاليه إلا في ساعة متأخرة، تناولا العشاء في المطعم وعادا في ساعة متأخرة ليمضيا ليلتهما الثانية انتظاراً لليلة الثالثة، حيث موعدهما للعبور إلى غزة.. لم يكن لديهما الكثير ليفعلانه نهار اليوم الثالث سوى انتظار الساعات التي كانت تمر ببطء شديد وبثقل لم يعهدانه من قبل.. لكنَّ زيداً لم يحتمل خبر تأجيل عبورهما إلى موعد لم يحدد، حين جاءهما أبو العبد مساء تلك الليلة، وأخبرهما بذلك .
- الإسرائيليون يتذرعون باكتشاف نفق قاموا بتفجيره .
- وهل ضبطوا أحداً هناك ؟
- الأنفاق موجودة منذ انسحابهم من سيناء، وتقسيم رفح إلى شطرين، ولا يحتاج المتسللون عبر هذه الأنفاق لأكثر من حفر أمتار قليلة للتنقل بين شطري المدينة، وتهريب كل ما يريدون من الأسلحة إلى المخدرات، إلى البضائع، إلى البشر أنفسهم..
انكفأ زيد على نفسه، ولم يدرِ متى غلبه النعاس فجر ذلك اليوم، فلم يصحَ من نومه قبل عصر اليوم التالي.. نهض متثاقلاً، تعباً، وكأنه لم ينم.. كانت صورة أنفاق رفح و اجتراح المقاومة لها بادئ الأمر لتهريب الأسلحة إلى المقاومة في غزة، ماثلة أمام ناظريه، حتى نجاح بعض أصدقائه من المطلوبين والمطاردين في اجتيازها إلى سيناء ومن ثم إلى الدول العربية، مثلت أمامه وعادت إليه صورة ماهر، الذي تسلل من بيت لحم إلى غزة عبر صحراء النقب، ومن بعدها إلى رفح حيث نجح ورفيقاه في الوصول إلى سيناء عبر أحد تلك الأنفاق.. كانت قصص المتسللين تصلهم في بيروت وتونس.. بتفاصيلها التي غالباً ما كان يشوبها بعض المبالغة، التي تعتمد على خيال الراوي في كثير من الأحيان..
لم يكن أبو العبد بحاجة إلى انتظارهم طويلاً فجر ذلك اليوم، لاصطحابهم إلى الحافلة التي يستقلها ومجموعة من العائدين إلى غزة.. فقد جافاهم النوم، ولم يستطيعا التغلب على القلق والإحساس بالرهبة والتفكير بما ينتظرهما.. الطريق طويلة.. والمعبر لا يزال بعيداً.. رغم الكيلو مترات التي تفصلهما عنه.. وقد آثر زيد التزام الصمت وإطلاق العنان لأفكاره المبعثرة .. يحاول لمّها، لكنها لزجة تهرب من بين يديه.. تقفز تارة، وتارة أخرى يبحث عنها فلا يجدها.. بعد قليل سيواجه الإسرائيلين الذين أذاقوه الأمرين، وطاردوه حتى في لقمة عيشه.. عساكر الاحتلال، الذين حرموه حتى من حبه.. نعم الاحتلال طارد حبه، ومنعه من ممارسة حقه في الحب والحياة.. وهو ما دفعه إلى الانخراط في المقاومة حتى يتمكن من ممارسة حقه هذا، والدفاع عن حبه، وعن حبيبته رباب.. حتى حين قرر العودة والعبور إلى أريحا متسللاً، مخاطراً بحياته ومعرضاً نفسه للموت على أيدي قوات الاحتلال وحرس الحدود المتربصين على طول نهر الأردن.. يومها.. لم يفكر زيد بغير العودة إلى أريحا.. والعيش قريباً من ذكريات طفولته التي عاشها بين بيارات البرتقال والليمون.. وبساتين الموز الريحاوي.. يطل عليها جبل قرنطل الذي يحضن أريحا.. ينغرس دير قرنطل في ذاكرته منذ أن غادر أريحا، ولا يزال يعد خطواته التي اعتادت على تسلق الجبل عبر طرق جبلية وعرة، شقَّها الرهبان المعتصمون في أروقة الدير المعلّق وسط الجبل منذ قرر رهبان اليونان التصوّف والاختلاء في صومعات حفروها بأيديهم، وحبسوا أنفسهم فيها، تقرباً إلى الله.. وسعياً إلى محبته.. وهرباً من اضطهاد الكنيسة وملاحقتها لهم في القرون الوسطى..
توقفت سيارة الجيب قرب حافلة كانت تنتظر، وقد تبين لهما أنهم يجمعون العائدين في حافلات تنطلق إلى المعبر وفق سجلات وقوائم قام مكتب الارتباط بتنظيمها.. لحظات، تقدم أحدهم وطلب إليهما التوجه إلى الحافلة بعد أن سأل عن اسميها، صعدا إلى الحافلة، فيما كان الرجل يتلو أسماء الركاب، وما أن تأكد من حضورهم جميعاً، أشار إلى السائق بالانطلاق وقد راح يعطي تعليماته بعدم مغادرة الحافلة والتقيد بالتعليمات، طالباً إليهم التأكد من أوراقهم الثبوتية..
انطلقت الحافلة، وسط صمت و ذهول الجميع، وقد تعّلقت أنظارهم بالبوابة غير البعيدة، حيث يرابط جنود الاحتلال، أيديهم على الزناد، وعيونهم شاخصة نحو الطريق المؤدي إلى المعبر تحسباً لأي طارئ..
حدّقَ زيد في المشهد غير مصدّق لما يراه، ها هو يعبر إلى غزة، تسارعت دقات قلبه، وتداخلت كل الصور أمام عينيه، و اختلطت المشاهد في رأسه، فيما كانت الحافلة تقترب من البوابة، أشار أحد الجنود إلى السائق بالتوقف وإطفاء المحرك.. لحظات، صعد الجندي إلى الحافلة، سأل الركاب إن كان هناك من يحمل سلاحاً، وحين أجابوه بالنفي، طلب من السائق جمع الوثائق الشخصية لهم، والتقدم نحو ساحة قريبة من المدخل الرئيس للمعبر، أعاد المشهد لزيد ذكريات اعتقاله، وعمليات الدهم التي عاشها قبل إبعاده إلى لبنان.. تقدمت الحافلة ببطء نحو الساحة حيث كان بانتظارهم جنود الاحتلال متأهبون، انتشروا في المكان، وأحاطوا بالحافلة، طلب أحد الجنود من السائق وثائق الركاب التي جمعها، وراح ينادي عليهم واحداً تلو الآخر، ويطلب من كل واحد التقدم إلى القاعة عبر باب أشار إليه يُفضي إلى قاعة امتلأت بالعابرين رغم الوقت المبكّر، دخل زيد وتوجه نحو مقعد خالٍ حيث أشار أحد الجنود المنتشرين في القاعة.. وكذا فعل الآخرون، جلس زيد يحدّق في المشهد أمامه، جنود الاحتلال مدججين بأسلحتهم، وعدد غير قليل من رجال المخابرات، وحاجز طويل على امتداد القاعة، اتخذ الموظفون من الشرطة مواقعهم، لاستقبال العائدين واحداً تلو الآخر، بعد التدقيق في الأوراق الثبوتية، يتوجه العائد برفقة اثنين من رجال الاحتلال، أحدهما عسكري، والآخر رجل مخابرات بلباسه المدني، إلى باب في آخر القاعة، انتظر دوره طويلاً، عشرات من زملائه غيبهم الباب ساعات طويلة، قبل أن يتبين بأنهم يخرجون من باب آخر، بدأ زيد يضيق ذرعاً، لكنه بعد حين، أدرك أنَّ الأمر جزء من اللعب بأعصابهم و استنزاف تماسكهم ورباطة جأشهم يُمسك بما ضعف من خيوط أعصابه، يشدها ويعيد توازنه من جديد، لحظات سمع صوتاً ينادي أسمه، نهض متوجهاً نحو الصوت، أحاط به اثنان، تبعهما إلى الباب ذاته، في مشهد أعاده إلى أيام الاعتقال، حين كان يتوجه إلى الزنزانة، برفقة حراس السجن، بعد أن يسلم كل ما لديه إلى الأمانات، لا يختلف المشهد، عن ذلك الذي كان قبل سنوات، سوى ابتسامة مفتعلة، وكلمات ترحيب لم يستطع تصديقها من رجل المخابرات الذي رافقه إلى غرفة خلف الباب، تتوسط ممراً طويلاً، وتجاوز غرفاً أخرى على جانبي الممر... توقف الجندي أمام الغرفة، فيما أشار رجل المخابرات إلى زيد بالدخول...
- تفضّل..
سمع صوتاً يناديه من الداخل.. لا يزال يذكر ذلك الصوت، إنه هو، الكابتن روني.. وكيف له أن ينساه.. لقد لازمه ذلك الصوت سنوات طويلة، وانطبع في ذاكرته، إنه الكابتن روني إذن.. يصر على ملاحقته .
- أهلاً بك في إسرائيل.. ألم أقل لك، سوف تجدني أينما ذهبت ؟!
- بلا.. لقد كنت معي ولم تفارقني.. بل إنني كنت طوال الوقت أبحث عنك ثم إني لست في إسرائيل، هذه أرض فلسطين المحتلة .
- كما أنت، لم تتغير، هانحن نلتقي، لقاءً مختلفاً عن كل اللقاءات السابقة .
- كنت أتمنى لو التقيتك قبل ذلك...
- ماذا كنت ستفعل ؟
- لم أكره أحداً مثلما كرهتك .
- قدرنا أن نظل معاً .
- ليتكم تفهمون ذلك .
- أظن أننا سنفتح صفحة جديدة .
- لست واثقاً من ذلك..
- ألا تثق بذلك ؟!
- لا لست واثقاً بأنكم ستفعلون .
- لماذا عدت إذن ؟!
- أنا أعود إلى وطني.. وليس إليكم..
- لم تغيرك السنوات يا زيد .
- بلى، غيرتني.. أكلت من عمري اثنتي عشرة سنة، تعلمت منها الكثير..
- قلت لك ذلك قبل خمسة عشر عاماً.. ولم تأخذ بنصيحتي .
- ألم أقل لك ذلك.. أنا تعلمت الكثير، لكنك كما أنت لم تتغير، ولم تتعلّم.. أرأيت لماذا لا أثق بك ؟! أعطني أوراقي ودعني أذهب.. لا فائدة من الحديث معك...
- وماذا لو رفضت ؟!
- ستؤكد بذلك لون الصفحة الجديدة التي تحدثت عنها..
ابتسم الكابتن روني وهو يهز رأسه ويمد يده إلى زيد مصافحاً، فيما أخذ أوراقه باليد الأخرى، وخرج إلى الممر، حيث كان بانتظاره شرطي اصطحبه إلى خارج المعبر...