أنت هنا

قراءة كتاب سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

كتاب " سرديات مقدسية - الشيخ ريحان " ، تأليف أحمد غنيم ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدم

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 2

صورة من حروف وكلمات

ربما تتطابق بعض أحداث هذا السرد، وبعض أسماء الشخصيات أو الأماكن مع الواقع، إن هذا التطابق ليس صدفة، غير أن ما بين يديك هنا ليس سيرة ذاتية لأيِّ شخصية أو أسم ورَدَ فيه، ولا تسجيلاً تاريخياً للأحداث.

أنا أحب القدس وأتحيز لها، ولست حيادياً في حبها، أمشي في طرقاتها، أنظر إلى الناس وجدران البيوت، يكسوها الندى من خجل النوم في الصباح، وتعرق من كدِّ السعي في النهار، أشتمّ رائحة الياسمين وهي تُدلي جدائلها من خلف سناسل الحواكير، أداعب أوراق الدوالي وأقطف حبات الميس، أهيم على نفسي في الوديان، أنطر الحجارة الصغيرة بإصبعي النابزة من ثقب حذائي البالي، علَّي أتعثر بقطعة انتيكا أو أثر من حدوة حصان أو قطعة من سيف أو رمح لجنود الناصر سحبتها مياه الأمطار من تلال المكبر إلى الوديان السحيقة، أتشعبط التلال المحيطة بأسوار المدينة، وأهيم بشقائق النعمان المنثورة على مدى السناسل المتدرجة من قمة جبل الزيتون إلى أحضان البتول الناصرية، ألتقط روعة المدينة كأنني آلة تصوير، أكتب الصورة بحروف وكلمات، وأكسو عظام اللحظة لحماَ كي أُرجعَ الزمن إلى الخلق القديم، أميلُ إلى الكتابة الفوتوغرافية، وإلى قلب القاف ألفاً في عاميتي الكنعانية، فأسمع همس الصبايا توشوش الليل، تطربني موسيقى الباعة الجوالين، ويسحرني صوت الأذان، وأجراس الكنائس، وتثور في قلبي نار غاضبة، عندما يُقتل الطين، أنا لا أبحث في سرديتي هذه عن الموضوعية أو الإبداع، لست سوى فوتوغرافي يكبس على زر آلة التصوير، يوقف الزمن ليحتفظ بالصورة كما هي، أو يعود إلى مسودة فلمه القديم ليُرجع الزمن إلى حيث كان جميلا، لم تزيفه الألوان المُبهرة، تشغلني ذاكرة المكان، صُور أبي المتروكة في صندرة الوعي واللاوعي، ذاكرة المدينة، وذكريات الناس، أنفاس التاريخ التي تبثها جدران الأزقة وأرصفة الطرقات.

هنا في القدس، هنا، ربما يكون ما أقدمه في هذه السردية قد حدث فعلاً، وربما اختلط الواقع مع الخيال والهوى وأقوال الناس، لكن الحقيقي بما لا شك فيه في هذا العمل، هو ذاكرة المكان التي أُعيدَ تشكيلها كما كانت، بعد أن عبث بها القرصان.

قد تتضمن سرديتي هذه نثاراً من حكايا المدينة، وقد يختل الترابط أحيانا بين الأحداث، وربما اقتحم المشهد من لا تبدو له علاقة بموضوع الحكايات، غير أنني أنعف على صدر هذا البياض، نثاراً من سجل مدينة تقاطرت روحها على شاسع من زمن، وتداخلت أحداث كل حقبة على واسع من أمم وناس، تشابكت وتقطعت صلاتهم، حتى بدا نسْجُ حكايات المدينة بالشكل التقليدي للسرد الروائي، أقل من أن يحيط بتلك الحكايات، قد لا يكون ما بين أيديكم رواية بالمعنى التقليدي، ولستُ بوارد الجدل إلى أي شكل أدبي ينتمي هذا العمل، وعلى طريقة إدواردو كاليانو في ذاكرة النار، أنا أيضاً "لا أومن بالحدود التي تفصل بين الأجناس الأدبية استناداً لضباط جمارك الأدب".

من المؤكد أيضاً أنني لا أرغب بإعادة صياغة التاريخ، وإن كنت أعلم أن معظم كتب التاريخ لم ترو الحقيقة، لأنها غيبت الناس، فقد أرَّخَ القادة والحكام لأنفسهم، وأبعدوا الحقيقة إلى الظلمات، ربما كان هذا الجهد المتواضع فرصة لبقاء الناس العاديين في صدر المشهد، كما كانوا دائماً: بائعة الخضار، الفران، مصلح البوابير، المنجد، بائع الحليب، مشردي الطرقات، حراس المدينة، البلهاء، المجانين.

قد يبدو هذا العمل مكتظاً بالمقولات الفكرية والفلسفية أحياناً، ومسترسلاً في وصف الأماكن والمهن والعادات، وكأن أحدهم أراد أن يقول كل شيء مرة واحدة، الواقع أنني عرفت أشخاصاً أرادوا أن يتحدثوا، لكنهم لم يستطيعوا، ربما منعوا، ربما لم يتح لهم الحديث، ربما قالوا لكن أحداَ لم يسمعهم، أريد هنا أن أمكنهم من قول ما أردوا قوله دون خوف من حسيب أو ناقد أو رقيب. وأعرف أناساَ أحبوا القدس لكنهم لم يدخلوا إليها أبدا، ربما منعوا وربما لم يُتح لهم القدوم إليها، أو ربما جاءوا متأخرين، بعد أن غيَّر عبث الغريب في صورة المكان، فبدا كأنه ليس هو الذي عرفوه أو سمعوا عنه، أردت بهذا العمل أن أحمل القدس إلى كل هؤلاء كما كانت، وحيث كانوا أو حيث أحبوا أو أُرغموا أن يكونوا، وأن أعيد تشكيل ما غيّره الأعداء من معالم المدينة، أرضها وعمرانها، ناسها وأشجارها، طرقاتها، طيورها، فصولها، أمطارها، نسماتها، جبالها، وديانها، الناس، من ذهبوا ومن رحلوا، من هُزموا ومن صمدوا.

إنني أدرك أن البناء الدرامي في هذا العمل مختلف عن بعض أنواع الدرما، لأن المكان وهو القدس شَكَّلَ ركيزة هذا البناء، الذي يسعى لتقديم صورة وصفية متحركة للمكان، في تتداخله مع الزمن ضمن الأحداث وحركة الشخصيات الأساسية وتطورها والثانوية " الكومبارس " بلغة السينما ومدى ضرورتها ، كذلك مع الشخصيات التاريخية والرمزية المقتبسة، التي تم توظيفها في النص لتعميق الدلالة، وهذا التداخل بين الزمان والمكان " الزمكان " هو حالة دينامية متداخلة الأبعاد، لا فصل بحدود جامدة بين مكوناتها، سواء على مستوى الزمن بأبعاده الثلاتة الماضي الحاضر والمستقبل، أو المكان بأبعاده الثلاتة أيضا. إن النظريات الحديثة تَعْتبَر أنَّ كل ثانية وحيز، جزءٌ من الكون الواسع بأبعاده المتعددة، وهناك نظريات أخرى أسقط بعضها المكان من عناصر الرواية واكتفى بالزمن وعاءاً تاماً لكل عناصر الرواية، بينما بعض أخر رفض الأقرار بوجود شكل محدد للرواية، لعل محاولتي في هذا العمل كانت، اقتحام المسافة الفاصلة بين مفهوم الرواية ومفهوم الحكاية الذي لم يترسخ بعد، وفي المسافة بين الفشل والنجاح يكفي دائما شرف المحاولة.

قد تكون مهمة الفن أو الأدب أن يصنع من الغموض لحظة الدهشة، التي تفتح على مدى لحظات الوعد، ألف احتمال للفرح أو الحزن، للخيبة أو الأمل، للقوة أو العجز، أو أن تكشف عن لوحة الكون سحر الجمال وروعة التماهي والاختلاف، غير أن مهمتي هنا كانت أن أفك طلاسم الغموض الذي غيب الوعد، وأنضو عن الدهشة خداع الحبكات المسبوكة بإبداع الكتاب والرواة، لأن الدراما المحبوكة عن قصد إن لم تحاكي الواقع ليست سوى خداع للعقل والبصر، لن تجد هنا سوى حقيقة واحدةٍ القدس في رابعة نهارها الدائم للأبد.

أكتبُ من عالم الأمر، قبلَ أن تَحلَّ الروح في حيّزها الفاني، وقبلَ انسياب الوجود إلى وعاءِ الكون، وقبل أن يبرأ الله الحياة، حينها لمْ يَكنْ للمادة شكل، ولم تَكنْ الفكرة قد سكنت حدَّ الوعي، والروحُ في تلك اللحظةِ كلٌّ متحررٌ من علةِ الحيّزِ والزمنِ وصفةِ الشيء، أجبتُ بلى، على جَلَلِ السؤال، ثم شَغَلَ هَبَائي في العَدَمِ استفهامية أين، المبنية لمفعول فيه تَعَلَّقَ بخبرٍ لمبتدأ لم يأتِ بعد، ولم يكن هَبَاءُ العدمِ قد اتسع لسؤال متى، فتلك استفهام الساكن على محلِّ الفرضِ من الأمر الآتي في كن فيكون.

وأين، سؤال همَّ اللاشيء المنثور على أسرار جينات اللامحسوس من الخلق ومن أمر ربي، أكتبُ من قبل الوعي ومن حُلمي، أني أحلمُ بأين الممتدة من حدِّ الأمرِ إلى حدِّ الخلد، تلك هي حيّز وجودي، قدسي مدينتي وبيتي وروحي الباقية فيها إلى أبد الدهر.

الصفحات