كتاب " سرديات مقدسية - الشيخ ريحان " ، تأليف أحمد غنيم ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدم
أنت هنا
قراءة كتاب سرديات مقدسية - الشيخ ريحان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أحلامٌ صغيرةٌ
رأى باب المرقد يُفتح، ظنَّ للوهلةِ الأولى أنَّ أحد المُكلَفين برعاية المقام قد انتهى من عمله وهَمَّ خارجا، تلوى النور من سراج المقام وتموَّج في رذاذ تسلل من صير الباب، فاحت رائحة زكية وأُعبق الزقاق بفنعٍ وطيب، فجأة رآى شيخاً عَطَرَّدُ[1] القامة، مضمخ بالمسك، يعتمر عمامة بيضاء، أبلج الوجه، وديع المظهر دون إخلال بهيبة الهيئة والقوام، ذو عينان سوداوان براقتان، يرتدي جلباباً داكنًا فضفاضاً، وعباءة خضراء امتدت إلى القدمين، عبَرَ من نقطة ما تحت قوس الضياء، متحرراً من علة الزمن، كأنه يَهْدَجُ[2] فوق جسد التاريخ، .
بَغَتَتْ الدهشة عمر فبَغَمَ من هول المفاجأة، اندفع إلى الخلف بشكل عفوي، أحسَّ بقشعريرة اعترت جسده، ارتجفت يداه، اتسع جفنا عينيه، شحب وجهه، بدا مَشْدوها كمن صبت عليه لعنة الأبد، حملقَ بالرجل وبَهَتْ، أحس بخوف شديد، أضعف قدرته على التفكير السليم، ما عاد يدري أخترمة[3] سكته أم هترمة، تمتم بشفتين مرتعشتين.
- دستور، بسم الله الرحمن الرحيم، يا لطيف.... يا لطيف الألطاف نجنا مما نخاف، سلام قولا من رب رحيم، سلام يا أسيادنا... سلام، ما عاد عمر يقوى على التنفس، كاد يُغمى عليه من هول المفاجأة، دَرْدَبَ[4] إلى الخلف، غير أن الشيخ دنا منه بفحجةٍ واحدة، شعر عمر بيدٍ تربت على كتفه، وعيون متقدة تحملق به، تبدلت ملامح وجهه، بينما ظلّ الشيخ هادئ القسمات.
- بسم الله الذي لا يفات ولا يلات[5]، قابض الأرض والسموات، وجابر العثرات، والسلام على عبد الله حاضر البيت، اللهم بارك عبدك ضيف مقامنا هذا، واستر عورته وأجبر حوبته وآمن روعته، ما بك يا بنيَّ، واهِي الجأش، ترفُ عينيك ويرتعد جسدك؟ هل بك دَوَش[6] أو رَصَد[7] أو وَصَب[8]؟ هل أصابك مكروه أو شر لا قدر الله؟
سأل الشيخ بنفس هادئة وقلب عطوف، بينما هَلَجَ عمر بصوت متهدج مرتعد ولهجة مقدسية.
- "مين... بسم الله... بسم الله..... بس كيف.... ليش...".
- ما بك يا رجل لماذا تفقفق وتفطفط[9]، ألم تعرفني أنا جارك الشيخ ريحان؟
- بلى عرفتك يا سيدنا، عرفتك، "بس..... يعني... مش أنت....كيف .. يعني بقصد أنه يا سيدنا شو طلعك من القبر، مش أنت ميت من أيام سيدنا عمر بن الخطاب، كيف أنت..... طلعت هون! ...... دستور ....دستور[10]، يا الله يا لطيف اجعل البلا خفيف.
الله أكبر.....الله أكبر... إنه صوتُ الشيخِ خليل الأنصاري يَنْسابُ عذباً جميلاً عبرَ الأزقةِ الضيقة، يَدْخلُ إلى شبابيكِ البيوتِ ومَشْرَبياتها، وما إن يُلامس أسماعَ النائمين لطيفاً مطمئناً خاشعا، حتى تَسْمَعَ في الأنحاءِ وقْعَ أقدام وقباقيب وخرير مياه، وتمتمات خافتة تَذكرُ اسم الله، تَرِقُ المدينةُ وتحنو للنداء بيوتها وطُرقاتها وحِجارة الجدران، إنه أذانُ فجرٍ جديد، يبعثُ الحياةَ في عروقِ الشوارعِ والأزقة، فيتنفسُ الصبحُ ويفيضُ الناسُ جموعاً إلى المسجدِ الأقصى من كلِّ أوبٍ وحارة، مكبرين مسبحين في جلال هادئ لا تعكره إلا قَهْقَهَات بعض جنودٍ انتشروا في غيرِ زِقاقٍ هنا وهناك.
ما إن سَمِعَتْ صوتَ أقدامه وقرقعات دلات الحليب بين يديه، حتى تنبهت أعصابها وارتخت عضلاتها وحنَّت نُخامياتها وحرَّكت ذيلها وقوائمها الخلفية وتمايل ضرعها، اقتربَ منها نظرَ إلى عينيها، رَمَشَتْ بهدوء وهزَّت رأسها، حنَّنَ عليها، هَنَّدَها ومَسَّدَ على جسدها، جاء بكرسيه ذي الأقدام الثلاث القصيرة إلى بائنِ الضرع، بسْمَلَ وأضاف، ما شاء الله، غَسلَ ضِرع المَوْشِيَّةَ[11] بماءٍ فاتر، ثم نَشَّفَه بقطعةِ قماشٍ طاهرة، دلَّكه قليلا، تَهَدَّلَ الضرع بين يديه، وتَدلَتْ حلمات القوان[12] إلى أسفل، فركها بنعومة، وقبضَ برفق وشدَّ إلى الأسفل، رشقة أولى من كل حلمة في إناء أسود، نظرَ إلى ما في الإناء من رشقات حليب أولى، تأكد من نقائه وصحته، بدَّلَ الإناء بسطلٍ من التوتياء، ثم ضفَّ[13] باقي أبقاره وغَسَقَ[14] حليبها في دلاتٍ كبيرة مطمئنا راضيا.


