أنت هنا

قراءة كتاب سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

كتاب " سرديات مقدسية - الشيخ ريحان " ، تأليف أحمد غنيم ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدم

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 5

حكاية البئر

للبئرِ أن تستقبلَ الصباح بفرح، فهي على موعدٍ مع غيداءها وملاكهِا الجميل، ببشرةٍ فاتحةِ السمرةِ وجديلتين دَجُوجِتين[29] تدلتا على أكتاف الصبا، ينعكسُ وجه فاطمة على صفحةِ الماء يزاحمُ قرصَ الشمسِ بنورِ نجمتين كحيلتين وأنفٍ دقيق، أنزلَتْ فاطمةُ الدلو إلى البئرِ وئيدا ثم شدَّت الحبل برفقٍ فارتفعَ الماءُ ولامسَ بنانها الناعم، مالَتْ قليلاً بالدلو، دفعته إلى حوضٍ ضاقَ صبراً من طول الانتظار، وأتبعتْ دلواً بآخر، عَبَّتْ حتى دَسِقَ[30] الحوضُ وتمَوّجَ الماءُ ونضا عن وجه مَهَاةٍ وحشيةٍ تَدَلَتْ غدائُرها وعانقتْ بلورةَ النهار، بَجَّتا[31] في باجٍ شعّاع من براءةٍ غازلَتْ من صفوِها صفاءَ السماء، عشرون عاماً والبئر جزء من الحكاية وأسرارها، تُحبُ فاطمةُ البئرَ والدلوَّ والشعرَ وخريرَ الماء، وقمرا يُسافر إلى كلِّ الدنيا، ثم يعودُ إليها وفي حوضِ البيتِ ينام، فاضَ الحوضُ ومِيزابانُ القلبِ أو كادا، وشحَّ ماءُ البئرِ أو كاد، وما بين هذا وذاك زمن من وصلٍ وفصلٍ ووداد، انتشلَتْ فاطمةُ الماءَ وجادَتْ به على وردِ الحوشِ وشجرةِ التين والمدادةِ العجوز، ولها أن تجودَ ما شاءَتْ الروحُ حُبَّاً وماءًا، ولها أن تفلتَ أنفاسها ليَعِبَ منها الوردُ ويَتَضوَّع ويَفحْ عبيره في الأرجاء.

لم تنسَ فاطمة أن تملأَ مشاربَ البقرات بعد أن ضُفت، نادت كلَّ أفراخ القن فأتتها تحني الرأس ثم ترفع عينيها نحو سيدة البئر، وتدّْعو باري الكون لساقيتها، أكملَتْ فاطمةُ توزيعَ العلفِ والبرسيمِ في مواضعها، وقبل أن يَشْدُو الحسوني للصباحِ عادَتْ إلى البئرِ ودلو الماء، غسلَتْ كفيها، فَتَحَتْ للروحِ فضاءاً لتُحلقَ مستلقيةً تحتَ التينةِ تَرقبُ ميلادَ يومٍ جديد، لم تتعب ولم تمل من تقلبِ السنين على وعدها الذي غاب، كانت تعلمُ أنَّ الانتظارَ سيطول، وأنَّ من لا يعرفُ أنَّ في الحياةِ إجبار لا يعرف الحياة نفسها، لكنها لم تستسلم عندما هَتَتْ الدنيا دهاكلها وأثقال من البلاء على صدرها، قررَتْ أنْ تصبرَ وتكافح، لأنَّ الصبرَ دونَ الكفاح عجز واستكانة، لم تذهب سنوات الدراسة سدى، تمكنَتْ من إقناعِ والدها قبلَ أنْ يسقطَ شهيداً في ثورة البراق بأنَّ الدراسةَ في مدرسةِ الراهباتِ في حارةِ النصارى ثم في كليةِ البناتِ في القدس، ليست حِكراً على بناتِ الأغنياءِ والعائلاتِ الكبيرةِ من الطبقةِ العليا فقط، بلْ إنَّ ابنةَ بائعِ الحليبِ يُمكنها أنْ تتعلم، وأنْ تتفوق أيضا، وأنَّ التعليمَ لنْ يمنعها من واجباتِها في الأسرةِ من حلبٍ للبقراتِ وإطعامٍ الدجاجِ وكلِّ مسؤولياتِ الفتاة، بل إنَّ العلمَ قد وسعَ أُفقها، ورفعَ من شأنِ وقيمةِ العملِ لديها، وساعدها على نبذِ الوهمِ والجهل، وأنارَ لها السبيلَ لتكونَ أهلاً بما كلَّفها الله به من عبادةٍ وعمل، كان ما اختارته فاطمة، وتمكَنَتْ من تحقيقه أشْبَه بالمستحيل على فتاةٍ في زمنها، إلا قلةً من طبقةٍ خاصة، بالتأكيد أنَّ عائلتها لمْ تكنْ منها، لقد آمنَ الناسُ حينها أنَّ البيتَ هو كلّ عالمِ الفتاة، فيه تُولد وفيه تَكْبر وفيه تموت، ولا تخرج منه إلا لضرورة قصوى، وإن فعلَتْ، فذلك قبل أن تبلغَ الحيضَ وبرفقةِ الكبارِ من النساء، لزيارةِ أهلٍ أو جيران على مقربةٍ من البيت، تكون الفتاةُ الصغيرة قد لبَسَتْ عَبْعَبَ[32] النساءِ الكبيرات، مما فُضْفِضَ من اللباسِ والغطاء.

دَرّسَتْ فاطمةُ الآدابَ واللغةَ الانجليزية، لكنها عشقت الرسم وكتب التاريخ وقصائدَ أبي القاسم وإيليا والمتنبي، وربّما حَسَدَتْ في سِرِها ماري الصفوري على هيامِ إبراهيم طوقان بها، وكتَبَتْ للبئرِ ودلو الماءِ وحجارةِ الطرقات، ولحباتِ السمسمِ في لقمةِ زعتر، ولفارسها الجامحْ مثلَ نشيدِ الحرب، كانت تُخفي ما تكتب في صندرةٍ بعيد عن الأيدي والعيون، آمَنَتْ أنَّ زمناً سوف يأتي تتفجر فيه الكلمات ينابيع من تحتِ الصخور، ما تَعِبَتْ منَ الانتظار، يعلمُ جميع من في البيتِ أنها تنتظر وعداً هو حُلمها ومصدر إلهامها وحيويتها وبرق النور في عينيها، تعودَ أفراد عائلتها على هذا الوعد، وتقبلوا هذا الانتظار، بلْ واحترموه، ربّما لا يعرف أحد غيرها من يسكن هذا الوعد أو يشغلُ ذاكَ القلب، لكنهم تقبلوه، لذلك ردَّتْ أمها وردَّ أَخِيها منْ تقدمَ لطلبها دون أنْ يُعرضاها لسؤالٍ قد يجرحُ صورةَ الوعد، أو يُشككُ بجدوى الانتظار، كان ذلك استجابة لوصية والدها الشهيد، الذي طلبَ من ابنهِ أنْ يُحْسِنَ إليها وأنْ يحترمَ خيارها ما دامتْ تُقيم واجبها وتلزم دينها وتحترم قيم أهلها ومجتمعها. فاطمة المعلمة في مدرسة المعارف، صاحبة الوجه الملائكي والشخصية القوية، المتعاونة المحبة للآخرين، حازت على حبِّ واحترامِ كلِّ من عرفها، وإنْ بدا غريباً على بعضِ أبناءِ الحي وبعضِ الجاراتِ كثير مما كانت تقومُ به من أعمال، كانتْ تكافحُ لإقناعِ أهالي الحي من نساءٍ ورجالٍ، أنْ يوافقوا على إرسالِ بناتهم إلى المدرسة، رغم مشقة ذلك على الكثيرين بسبب من الفقر والفاقة والعادات، لذا جعلت من ساحة البيت وظلِّ التينة حلقة لتدريس فتيات الحي وبعض الكبار من نسائه، أحيانا تعامل أبناء الحي معها كأنها أحد رجالهم، كانت صاحبة رأي ومشورة، أحبَّها الناسُ، وكنت تسمعهم يقولون هكذا قالت الست فاطمة، فتاة الحي، معلمة المدرسة، ابنة بائع الحليب، مصدر فخر الحي واعتزازه، أحبَّها أهلُ البيتِ وزملاء الدرس وأهل المدينة وتمناها الكثيرون، لكن قلبها تمنى فشقي العقل والجسم في مناه.

سعَتْ فاطمة دائماً لتضييق الفجوةِ بينها وبين أختها التوأم نرجس، ريحانة البيت التي يتضوع المكان بعطرها دون أن يلتفت أحد لوجودها، تمتعت بفطنة فطريه وطَبْعٍ لطيف، لكنها لم تنلْ حظَّها من التعليم ومن الحياة مثل أختها، كانت كغالبية بنات المدينة تلزم البيت الذي هو كل عالمها، فيه ولدت نرجس وفيه تحيا وكانت مقتنعة أنها فيه أو في بيت زوجها ستموت، حاولت فاطمة أن تشركها في حلقات الدرس، لكنها لم تنجح، لم تعرف نرجس من الدنيا إلا حدود البيت، ومن الرجال إلا أباها وأخاها، وبعض الصبية الذين يحضرون إلى البيت لشراء الحليب، لم تذهب يوماً إلى مدرسة ولا حتى إلى كُتاب، كانت ساعد أبيها ثم أخيها وأمها في البيت، ريحانة البيت، تصلي الفجر منفردةً، وتبدأ بكنس البيت وشطفه ولا تسمح لأحد بالحركة حتى تجف الأرض، نرجس رغم طبعها اللطيف، مسرسبة حتى الهوس، تغسل الملابس، خاصة البيضاء منها بالشبة، تدعكها بيدها عدة مرات بقوة حتى يزهو لونها، ثم تصعد بها عشرين درجة على سلم خشبي إلى السطح، تنشرها هناك في وجه الشمس، ترفض نشر الغسيل بحوش الدار، تقول أن أطفال البيت يعرضوه للاتساخ، والحقيقة كما تقول فاطمة أن نرجس تريد أن تزهو بغسيلها النظيف أمام الجارات، فهي تطرب عندما تسمع إطراء إحداهن على همتها ونشاطها وبهاء ألوان غسيلها، فاطمة تعتبر جهد نرجس الزائد وسرسبتها نوعاً من إثبات الذات أكثر منه وسواس قهري، مقابل إنجاز الست فاطمة وإطراء الناس على وعيها وقوة شخصيتها.

ما إن تنتهي نرجس من الشطف والغسيل وخُمامَةِ البيت، تتفرغ لترتيب غُرف النوم وركن الفرش وطيَّ الُلحف الحرامات على غَرَّها وتصفيفها بعضاً فوق بعض بالركسةِ بترتيب لافت للانتباه، وإذا وضعت الوسادة البيضاء ذات الأستك الأحمر والشرشف الأبيض على السرير الوحيد في غرفة أمها، فإنها لا تسمح لأحدٍ لمسه أو الجلوس عليه، حتى أن الجارات الزائرات لأمها يتعجبن من إبداع عائلة يضم بيتها يخورا للبقر وأفراخا وبطاً وبعض عنزات وشجرة تين تسقط أوراقها وتجذب القوارض والحشرات، كيف تتمكن تلك العائلة من جعل هذا الحيِّز المكتظ بالحياة بحوشه وغرفه ويخوره نظيفاً على مدار الساعة، تَفْغو[33] في جنباته روائح حياة مفعمة بالأحياء مع روائح من العطر والبخور المنعش، كل ذلك بفضل ست البيت نرجس، أما الطبخ رغم مهارتها به فإنها تركته بعد استشهاد والدها لأمها أو لهدى زوجة أخيها لأنها لم تُطق أن تسمع إطراء على طبخها غير الذي قاله والدها "نرجس ست الستات وست البنات". تُحب نرجس أن تُعين أخاها في حلب البقرات، التي تألفها كما تألف عمر، وترمش بجفونها ترحيبا ورضاء بقدومها كما تفعل مع أخيها، لم يسلبها كدَّ السنوات جمالها الفاتن، وربما أنها لم تدرك في زحمة عملها في البيت، كم هي بارعة الجمال، ذات وجه بيضاوي وسمرة براقة وأنف دقيق، كانت ترفع رأسها بحركة خفيفة يمينا لترتفع خصلات الشعر الدَجُوجِيّ عن عينيها السمراوات المحاطة بمحار من البياض يوقظ قمر الانتظار، لم تكن تقل فطنة وذكاء عن أختها فاطمة، لكن انتظارها لم يكن وعداً، بل قدر للغياب والعزلة، نرجس لا تحب الوعود، لأنها تأتي من بعض الجارات أو الأقرباء وعداً لا تعرف شكله أو طبعه أو هواه، والأدهى أنها لا تتمكن من رسم صورة له في ذهنها، وإن حلمت به ذات مرة فإن وجهه غالباً ما يكون مظللاً بالنور، ربّما لكونه وعداً تنتظر أن يضيء ليل صباها المظلم، أو ربّما أنها غير قادرة على تصور شكل هذا الوعد، لأنها لم ترَ من الرجال إلا أبيها وأخيها.

نرجس وردة البيت المنزوية خلف جدار العيب والممنوع، التي يصعب رؤيتها وتمييز وجودها في ظلِّ زمنٍ مكدس بالعرق والجهد والتعب، إنها رغم إبداعاتها الكثيرة كست بيت ناجحة، لكنها منطوية على ذاتها، تسرق من الزمن لحظات قليلة لتخلو إلى نفسها، تحلم بفارس يعبر كالبرق من تحت كوفيات بيضاء، ووجوه كثيفة دون ملامح، يخمشُ صرة الأفق، ثم سرعان ما يغيب الحلم وتعود للزمن المرصوص بالأعمال وربّما الإهمال من الآخرين، لا تذكر أن كان لها رأى بشيء غير أعمال البيت ونظافته وترتيبه، لا تذكر أن أحداً سألها أمراً في شأن الحياة، أو حتى في شأن يخصها، ولم تعرف كلمة لا إلا في تشهدها، تتذمر بسرها، وتغضب بسرها وتضحك وتفرح بسرها، ومن شدة قربها تكاد تُحجب عن ما حولها، ليس لأن والدها كان متزمتا، بل هو المجتمع بقيوده وعاداته وتقاليده، مجتمع الرجال الذي سجن المرأة، وأخفى خلف قضبان سجنها ضعفه وانكساره أمام روحها الجميلة، كان والد نرجس حنوناً محباً، كلما أقبلت لتقبل يده ضم رأسها إلى صدره بحنان، وقبَّل وجنتها وقال: لكِ الرضا يا ابنتي رضا ربي ورضا قلبي، ودعا الله دائما أن يُحنّن عليها ويوفقها مع ابن حلال يسترها ويكرمها، هذا أقصى ما استطاع رجل في عصره أن يتخطى من قيود المجتمع من أجل ابنتيه، من بادرت فحجزت لنفسها مقعداً مبكرا في قاطرة التَحَضر، ومن سكنت فلم يشعر أحد أبدا بعزلتها ولا بألمها، تلك طبيعة الحياة لكل فتاة في ذلك العصر، كنّ وقدر العزلة والغياب في تلازم لا انفصام فيه.

ربّما اعتقد الجميع أن داخل نرجس راكدا، لكن قلبها يخفق ويحلم بفارس الجمرات يلتهم تفاح الصبا ويجتاح أعماق الجسد ويبعث جيوشا من النمل تحت جلدها الطري، فتضم كفيها إلى صدرها، وتشد ساقيها إلى بعضهما بقوة، وتنفض رأسها تخلصاً من ذاك الشعور، وتحمر وجنتاها خجلاً، تتلفت حولها خائفة مرتجفة خشية أن يطلَّ أحد ممن في البيت على مكنون الرغبة ورجفة السؤال.

كانت نرجس أحياناً تغار من فاطمة وتحسدها على حظها في الحياة، فهي تخرج كل يوم من البيت، تبدل ثوبها البيتي بآخر للحياة، تحدثت الجارات عن جمالها وعن علمها وعن رأيها، وكثيراً ما تمنتها بعض النسوة زوجة لأحد أبنائهن، وإن عبَّرنَ أحيانا عن خشية من أمنيتهن تلك، لأن الزواج بفتاة بمواصفات فاطمة أمر لم يجرب في مثل تلك الأحياء، ولم تعرف طبيعته من قبل، كانت فاطمة مصدر الإلهام الخفي لكل ما هو جميل في ذهن نرجس، كانت تحبها وتحسدها وتخشاها، لكنها غالباً ما كانت تغار منها، كانت تؤمن أن حالتها هي القاعدة وأن فاطمة هي الاستثناء، بل الانحناء الحاد نحو الاستثناء، ورغم غيرتها الشديدة منها، لم ترغب يوماً أن تكون مثلها، فهي لا تعرف تماماً ماذا يعني مثلها، ولا تذكر كيف درأت فاطمة خباء التواري والعادات واقتحمت جدار الصمت والمألوف وقفزت إلى حيث المختلف والغريب، هي لا تعرف بمقياس الأفضل، هل قدرها هو الأفضل، أم خيار فاطمة ووعدها السحري المجنون، كثيراً ما شعرت بخفقان قلب فاطمة وهي نائمة إلى فراش بجوارها، كانت تشعر بيدها تسحب من تحت الغطاء تَمْسَح عن خدها دموعاً ساخنة، وأحياناً كانت تسمع منها بعض تمتمات عفوية، كأنها توشوش الليل أو تناجي وعدها الغريب، لكن نرجس لا تعلم كثيراً عن هذا الوعد، وما الذي يجعل الانتظار حاراً ومؤلماً وجميلاً إلى هذا الحد.

الصفحات