كتاب " سرديات مقدسية - الشيخ ريحان " ، تأليف أحمد غنيم ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدم
أنت هنا
قراءة كتاب سرديات مقدسية - الشيخ ريحان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
- أين هو، أما وجدتموه بعد؟
- "مين يا سيدنا، مين بتقصد، مين"؟... سأل عمر بصوت مرتعش.
- هلا هدأت يا رجل وأخبرتني هل وجدتم مجد.
- "مين مجد يا سيدنا، ما بعرف عن مين بتحكي"؟.
- مجد يا رجل ابن جارك الشيخ نامق[41]، لقد أطالَ غيابه عني، منذ زمن طويل لمْ يُحضر لي زيتاً ولا شمعاً، وما عاد زارني في ليل أو نهار، وما عُدت رأيته في الجوار ولا الديار، أين ذهب مجد يا ولدي؟
- "مجد...مجد...آه... عرفت مين تقصد"، توفي والده الشيخ نامق منذ عدة سنوات، وما عدنا رأينا مجد بالحي بعد عزاء والده، يقال أن الإنجليز خطفوه ويقول آخرون أن اليهود قتلوه، "أقصد يعنى أنه استشهد".
- أن يكون مجد شهيداً، فهذا ما يُجل، لكنه لم ينل شهادته بعد، فما زال أمامه درب ووعد، لو كان مجد بين الشهداء لعلمت أنا بذلك يا ولدي، لأننا نحن أولياء المدينة نحتفي بشهداء بيت المقدس لحظة صعودهم.
- "نعم.. نعم، أنت أدرى، وإلا كيف يعني، تمتم عمر باستسلام.
- ماذا تقول، بماذا تهمس أنا لا أفهمك، تراك تفطفط من جديد، قال الشيخ.
- "قصدي... يعني...."، يقول البعض إن مجد هاجر إلى ألمانيا، وأصبح ثرياً جداً، وما عاد يذكر القدس، ويقول آخرون إنه سافر إلى أمريكا، وهذه بلاد بعيدة ربما أنك لم تسمع بها، يقال إن مجد انشغل باللهو والخمر والنساء والعياذ بالله.
ضاق الشيخ ذرعاً بما سمع، أمسك بتلابيب عمر، شدَّه إليه، وقال:
- يا هذا لا تَفْتَأت[42] على الفتى، ليس ما تقوله صحيحاً، إنه مجد يا رجل، أنت لا تعرف مجد، سيد فتيان المدينة وأميرها الأحمر، إنه الزيت الذي يضيء ظلام القلوب، والوعد الذي ظلّ حيا يوم غاب الأمل عن العيون، سيف الرباط، حامل اللواء، وحارس أحلام المدينة، العاشق العابد التقي الورع، الساجد القائم المجاهد، أنت لا تعرف مجد أيها الرجل، فمثله ما كان يوماً ليهون أو يضعف أو يُفرط بالأمانة، لا غُربة الدار إن حلت، ولا المال ولا النساء، ولا ملذات الحياة وملهياتها ستأخذه من إيمانه ومن قدره العظيم، هو حي في الشجر والحجر والبشر، إنه في مكان ما، أبحثوا عنه ولا بد ستجدونه، وكلما عجلتم بعودته، دفعتم ظلام الليل عني وعنكم، أتفهم ما أقول، عليكم أن تجدوه، وأن تعودوا به لبيت المقدس، وإن لم تفعلوا، فأنذروا بظلام يدوم وخراب يحوم.
ثم مدَّ الشيخ يده إلى بهو مرقده المجلل بالعتمة والظلام، وجاء بذبالة يتخافت نورها من غير زيت أو سراج، ألقى بها إلى عمر وقال بصوت تهدج كأنه يأتي من غور عميق:
- يا عمر أريدك أن تكون عذيري من الوحدة، ونصيري من الغياب، وعوني على الظلمة والخطوب، خُذ إليك ذبالتي هذه قبل أن يجف زيتها وتذويها الريح وابحث عن مُوقد ناري، وأهلَ مرقدي وعماري، قل له إن للشيخ ريحان عتباً شديداً، لأنك منذ مدة طويلة لم تُحضر له زيتاً ولا شموعاً، قل له منذ زمن لم يتلألأ في مرقدي سوى شحيح من نور وضياء، ثم دَهَمَنا الليل وغيبنا الظلام، أنظر إلى نافذتي وقناديلي، جفَّ زيتها وغاب نورها بينما أضاء في غير مكان، ما فتئ الناس في سهوهم عنا حتى ضعف وِدّهم وكادَ يَنْضَبُ عطاؤهم، لقد وهنَ عزمهم وما عادوا وبَهَؤُوا[43] بهذا المقام، وأخذهم اللهو عنا، وألقوا بنا إلى ماضي الكتب المكدسة، جعلونا سيراً بالية، ولولا ذاكرة المكان، لغيبنا النسيان، فما عاد القوم وهلّوا، ولا شدّوا الرحال وحلّوا، أنطوى الواحد منهم في هذه الدنيا على نفسه، ليس يرى فيها إلا ظله.
انهض بنيَّ وذبالتي هذه، أسرج جواد الهمة، انفض عنك رتيب العيش، أقرع أبواب الأمة، ابحث عن وعدنا وعهدنا ومجدنا، قل لهم مضى على الغياب زمن طويل، وبيت المقدس اليوم في كرب عظيم، إننا في الجوار نسمع دبيب أقدام غريبة، تعيث فسادا في المكان، قم بنيَّ استنهض الناس ولا ترنُ للنعاس، اصرخ في عار العروش وذلّ الجيوش، من أغمدوا السيوف وغادروا الصفوف، وتخلوا عن الواجب والمهمة، قُل للقادة والسادة والمتكئين على الوسادة: عار وأي عار أن تترك ساحات الوغى والثغور، عار أن تختبئ جحافل الإمارة خلف أطفال الحجارة، قل لهم منذ زمن لا أسمع إلا مطارق ثقيلة، تدق أحجار المدينة، تهدم البيوت على الرؤوس، وتقتل البشر وتقلع الشجر وتسدّ الطرق على العباد، منذ زمن لا أرى إلا كاسيات عاريات يتجولن في الجوار يتضاحكن ويرطن بلغة غربية، لم أفهمها قط، منذ زمن وأنا أشاهد أُناساً غرباء، يمرون أمام مرقدي دون سلام، ما من فاتحة تُقرأ، وما من دُعاء، ما من زيت وما من ضياء، منذ زمن أسمع نفخ بوق، ونعيب بوم، كأن البيوت في الجوار قد بدلت أهلها، وغيرت نهلها وركنت لسهلها، اذهب لمجد قُل له: ما عاد الشيخ يطيق صبراً، وهو يرى بيوتاً للخير تهدم، وبيوتاً للخراب تقام، قل له لم يعد الغياب مقبولاً ولم يعد الصمت مفهوماً، قُل له إنني وبيت المقدس والناس وطالعه على ميعاد.
ودون أن ينتظر الشيخ تعقيبا أو إجابة، خطا تحت قوس يذوي من ضياء، عائدا من حيث جاء، ثم ران الصمت في المكان، وغاب الشيخ في ظلام المقام.