أنت هنا

قراءة كتاب سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

كتاب " سرديات مقدسية - الشيخ ريحان " ، تأليف أحمد غنيم ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدم

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 9

فجأة تقدمت مجموعة راهبات دير اللاتين، يسرن على طول صفين متقابلين يتقدمهن المطران سمعان، رآها تعبر من تحت أقواس البوابة الكبيرة، في الصف المقابل لجهته تماماً، بَغْثاء[46] الوجه بَدْرَة العين، نحيلة الجسد، تحمل بيدها سعفة نخيل، وتنشد والجموع مزامير الشعانين، وكلما اقتربت تصاعدت نبضات قلبه وهُيئ له أنها تهرع إليه، تسارعت أنفاسه دفع جسمه بكل قوة، ارتفع على أطراف أقدامه أقصى ما استطاع، كاد يهتف باسمها، تدفق كل ما في الكون من لهب إلى صدره، كأن الحياة فارت وأطلقت لظاها من دُجى الوجد في لحظة واحدة، تقدم في الحيِّز المكتظ خطوة أخرى، لهج[47] باسمها، لكن ماري مرت بسرعة خاطفة مثل ملائكة الفصح، وزعت هدايا العيد نظراتٍ من عيونها الساحرة على جموع الحاضرين، رآها بجلال ردائها الأسود وقلنسوتها البيضاء، وصدرها المطوق بياقة بيضاء تمتد إلى أسفل الرداء، التفتت نحوه، فَرَدَتْ شفتيها حتى غمازات الوجنتين، برقت عينيها، بدا له أنها ابتسمت، دفع بعضاً من حشدٍّ أمامه بقوة، حاول التقدم لكن الحشد دفعه إلى الخلف من جديد، هل فرَدتْ شفتيها حتى غمازات الوجنتين، هل ابتسمت حقاً، قلبها خارج منطقة الاستقبال البشري، قالت له أمه، لم تعد ماري تلك الطفلة الصغيرة التي كانت تشاركه اللهو إلى جوار شجرة السرو في ساحات الدير، منذ عاد في إجازة دراسية من جامعته في لندن، حاول أن يراها، لكنه لم يتمكن، قيل له إنها في عبادة خليوية منذ تسعين يوماً على قمة جبل التجربة في دير القرنطل قرب مدينة أريحا، مرّت ثلاث سنوات لم يرَ ماري، توقع أن تزور أمه في سبت النور مع والدتها كما تعودت دائما، لكنها لم تفعل، لذا بدا المشهد عزيزاً عند بوابة الصلاحية.

- عليك أن تنساها وتُحرر قلبك من ذنب التعلق بمن ليس إلى سبيله رباط، تلك أبواب موصدة، دونها الخطيئة والذنوب يا أنطون، قالت أمه.

أطلّ من نافذة غرفته ومن دِيماس[48] غربته على ضفة نهر التايمز، هفَّت نسمات هواء داعبت خُضارب الماء، تيار هواء لفحَ وجهه فأستنشق رذاذا من ضباب رطب، غشي أجواء المكان وقلبه المَهموم، لكنه لم يحجب عنه مرأى النهر وجسر البرج الذي تجللَّ بوشاح من بياض شفاف منذ أعلاه الملك ادوارد، مدَّ أبو جريس أطراف لحظه حتى لامست بحنان صدر اليابس المُضَبْئَك[49] على جنبات الماء، وتدفقت نبضات الزمن برناتها العالية من أعلى برج الساعة على الطرف الجنوبي لمبنى البرلمان لتنصت لصخبها جنبات الأرض خلف بحار بعيدة، لمح عجوزاً يجلس إلى مقعد بجوار حانوت للعصائر والكتب على الرصيف المقابل، بدا هادئا بارد النظرة كأنه لا يُحدق في مكان محدد، أو كأنه لا ينتظر شيئاً، ربما طوى سنوات عمره مع عمل رتيب في إدارة حكومية، منحني الظهر منكباً على ملفاته يُمحصها من خلف نظارته الغليظة، أو أنه جلس إلى ضفة النهر بعد سنوات من الكدِّ في أحد مصانع الإنتاج الحربي، وربّما كان عائدا من إحدى المستعمرات البريطانية البعيدة، هَرَّتْ ذاكرة أبو جريس ودَلَحَتْ ما فيها على صفحة الماء، صورة والده جالساً إلى كرسي من القش أمام راهبات الوردية ، بعد سنوات من الكدِّ في مطحنة القمح في طريق الواد، صافي القلب والسيرة، لم يعمل في مصنع حربي، وليس عائدا من إحدى المستعمرات البعيدة، كانت نظراته حنونة تلحظ المارة، وربّما تحصي خطى العابرين إلى طريق الآلام.

ليس بعيداً من الرجل العجوز قرب النهر، وقف شاب ببزة عسكرية إلى جوار فتاة تطاير شعرها الأشقر على ظهرها، بينما طوَّق الشاب بذراعه كتفها بحنان، كانا يحدقان بمركب كبير يمخر النهر، فيتموج الماء الهارب خلفه عن رغوة بيضاء، تتابعه عيون أطفال وعجائز من نوافذ البيوت وبعض الجالسين تحت مظلات المقاهي والأكشاك الصغيرة، عله يحمل لبعضهم نسمة من كيمبل أو قنديل من اكسفورد أو نفحات عشق من حبيب في ريدنغ، يصبها إلى الشرق في رطانزة عند بحر الشمال، كان الجو باردا بعض الشيء، ضم الشاب الفتاة إلى صدره، لا بد أنها أحست بدفء أضلاعه الملتهبة من الانتظار، مَسَحَ أبو جريس بيده على صدره، لسعته لفحة برد مفاجئ، ضمَّ يديه على فراغ صدره، لم تفلح نار الشوق الملتهبة داخل قلبه في تدفئة أضلاعه العارية، أحس بقهر الوحدة ووحشة الغربة، حدَّق بالعاشقين على ضفة النهر، بدا أن الشاب يتحدث إلى فتاته بفخر لافت، لعله يُوَدِّعُها للذهاب إلى بلد بعيد، أو عله كان عائد من الحرب في الهند أو شمال أفريقيا، أو ربّما حملته نفس السفينة التي جاءت بأبي جريس من ميناء حيفا بفلسطين قبل ثلاث سنوات، ومَخَرتْ بحار وأهوال وحملت من موانئ كثيرة جنود متعبين.

عاد الشاب وضمَّ فتاته إلى صدره من جديد، بدا أنه يَهْمِسُ في أذنها، لعله يبثها أشواقا خبأها تحت جمر سنوات الغربة الموحشة، أو لعله يُسرُّ لها بعضا من مغامراته في فلسطين، ربّما يحدثها عن صبيّةٍ اعترض طريقها في أحد شوارع يافا أو أحد أزقة القدس، لعله يحدثها عن تعليمات الجنرال الجديد هناك، أو عن الرجال ذوي الكوفيات الذين تتشابه سحناتهم تحتها، حتى أنه لا يكاد يُفرق بينهم وهم يعبرون الحواجز العسكرية في طرقات البلدة القديمة، أسندَّ الشاب وفتاته ظهريهما إلى سياج من الحديد على ضفة النهر، نظرا إلى الأفق المجلل بالضباب، ثم فجأة التفتا ناحية النافذة البعيدة، بدا أن الشاب يشير بيده، ارتعدت فرائض أبو جريس، لعلَّ هذا الجندي القادم من فلسطين يُشير إليه، أو لعله يقول لها إنَّه لمحَ هذا الفتى المختبئ خلفَ النافذة البعيدة قريباً من باب العامود، لم يكن يرتدي كوفية كالآخرين، لكن سحنته لا تختلف عنهم.

أطلق المركب صافرة الوصول، تَزاحم الناس على ضفة النهر، لعلهم قادمون في نزهة من لوندس، أو عائدون إلى المرسى قبل أن يفيض النهر من كيمبل، أو يهبط القلب مع الجرف ونزعة السطوة عند وادي النهر في طانزة، دقت أجراس الساعة واصطف الحراس على بوابات الحلم وأسوار القصر الملكي، لم يعد أبو جريس يرى العاشقين، فعاد عن نافذته إلى هياضِ قلبه ووحشة غرفته الباردة وإلى كتبه ودفاتره الملقاة في كل مكان، على طاولة المكتب، وعلى أرض الغرفة، ها هو عطيل[50] يُطل من تحت قبعة كاسيو[51]، يخاتله المنديل، تلفظ ديدمونة[52] انفاساً طاهرة، وهناك إلى جوار المدفئة ينكمش دافيد كوبرفيلد[53] مرتعشاً من البرد، بسترته البالية، وجبينه الملطخ بالسخام، وتستلقي جنية بيرسي[54] على السجادة الخمرية الداكنة في وسط الغرفة ساخرة من كوميديا دانتي، وعلى كرسي هزاز مضطرب يجلس سيد الغثيان[55]، يتلصص على العابرين من خلف الجدار، وتُطل الكلمات من معطف سارتر على حيَّز واحد لزمنين منفصلين، ويبقى التخيل حالة الانفعال المثير في وجودية ولسون[56] ودهشته واغترابه من رتابة العادي وعادية اليومي والرتيب.

مدَّ أبو جريس يده إلى فنجان القهوة، ما زالت دافئة طيبة، لكنها ليست مثل قهوة أمه التي تحرص على شرائها من مطحنة إزحيمان عند فم السوق في باب خان الزيت، تصر على أبو السعيد أن يضع كمشة كبيرة من الهال، يبتسم أبو السعيد، وتلقى أم انطون ما تريد، لتناول القهوة مع أمه طقوس مختلفة، فهي تأتي بإسكملة صغيرة ذات ثلاثة قوائم، تجلس إلى دوشك في شرفة البيت المطلة على قبة الصخرة المُشَرَفَة، تتكئ إلى جاعد ماعز أسود، تُشعل فتيلاً من القطن المرنخ بالسبيرتو في موقد البريستو الصغير، ترفع بكرجاً نحاسياً من على صينية مزخرفة تضم ثلاثة فناجين نحاسية، تضعه فوق النار الهادئة، وما إن يغلي الماء تضيف إليه نصف ملعقة من السكر وملعقتين ونصف من القهوة بالهال، ثم تنتظر برهة وما أن تفور القهوة تصب قليلاً منها في أحد الفناجين، ترفع يدها بخفة لتضع البكرج على النار من جديد، ثم تصب قليلاً في الفنجان الآخر، وتعيد البكرج مرة أخرى إلى النار، وعندما تفور تسكبها في الفناجين الثلاث، يلفُ أبو أنطون سيجارتين من الهيشة، أحضرها له صديقه أبو عصام من يعبد، يُناول أم أنطون واحدة بعد أن يُشعلها من طرف القطن المشتعل بلهب أزرق، تسحب نفساً عميقاً تنظر إلى أبو جريس، لا تأخذ عنّا عادة التدخين يا انطون، تقول وهي تحدق بسحابة من دخان تتلوى أمام وجهها، ثم تبدأ بحديث لا يتوقف عن البدوية بائعة اللبن المخيض التي تأتي من البعيد قريباً من الخان الأحمر، وعن مُصلح البوابير، وعن أبو جورج الذي لا يكف عن الشجار مع زوجته، وعن الحاج بدوي غوشة صاحب الحانوت المجاور الذي تجد في حانوته كل شيء إلا ما تريد، وعن ماري وراهبات الدير، وعن حارس الكنيسة الذي يطارد أطفال الحي المزعجين، وبائع الحليب الذي لا يتأخر دقيقة عن موعد الصباح.

أخذ أبو جريس رشفة من فنجانه، سحب من سيجارته نفساً عميقاً، اعتذر بسره لأمه لأنه خالف وصيتها، تنهد، نظرَ إلى أوراقه المبعثرة وإلى منفضة سجائره المليئة بالأعقاب، إلى زق الكُمْتَةِ الذي أحضره له الأب سمعان من اللطرون، ثم إلى كراكيبه الكثيرة في غرفة عزلته في لندن، هذا دفتر يومياته منذ كان تلميذاً في مدرسة الترسنطة في القدس، يحضر صديقه وعد في كل صفحاته، كان وعد يُحب مطاردة الفراشات الملونه لكنه يكره القبض عليها، هو يعرف أن وعد هو اسمه في شهادة الميلاد، لكن العائلة وأبناء الحي ينادونه باسم آخر، وعد لا يكف عن الابتسام، ولا يكف عن الكلام، يتلألأ وجهه المنمش في صفحات الدفتر، يشعرُ أبو جريس ببرودة تجتاح أنحاء جسده، كأنها برد القبور، يوقد نار مدفئة إلى يسار رفوف الكتب، يتوسط أحد تلك الرفوف صورة أمه وأبيه بالإكليل، إلى جوارها زجاجة من زيت الزيتون مقفلة بقطعة من الفلين، عزَّ عليه فتحها منذ جاء إلى لندن، تحيطها بعض حصوات أتى بها من جرنٍ بجوار كنيسة القيامة، ومن على الجدار تَدّلَت قلادة من خشب الزيتون، أهدته إياها أمه في الجمعة الحزينة قبل العاصفة يتوسطها صليب من خشب البلوط، ورثه أبوه عن جده انطون، وعلى طاولة في بَهْوِ الغرفة مجسم من العاج للطفلِ أمام المذود، وذبالة يترنح نورها في بنورة من غير سراج ليس يذكر من جاء بها إليه، بدا له أن روحه المعلقة بين روكنتان وانسيلموس مثل غرفته موحشة وتعجُ بالكراكيب.

عاد إلى النافذة، لا أثر للعاشقين، أخذهم المدى المجهول، الذي يأخذ الكثيرين ممن يمرون في جنبات الغربة، ولا تبقى لهم ذكرى، أرخى الليل جفونه على ضفة النهر، أحسَّ أبو جريس بوحشة واغتراب، حركَ شفتيه المتيبستين، لا رغبة له لقراءة أو دراسة، بل لا رغبة له في شيء، أخذه الحنين والشوق لماري، للقدس، لأمه لأبيه، لطرقات بائع الحليب على بوابة البيت كل صباح، لصوت أبو جورج يصرخ على زوجته العجوز، لبقالة أبو بدوي التي لا تجد بها ما تريد، ماذا أفعل هنا قال لنفسه، ربما ليس هناك بدٌّ من الدراسة، لماذا ليس هناك من بد؟ لما عاد ذاك الجندي من حربه إلى فتاته الشقراء قرب النهر، ماذا أفعل أنا هنا قال لنفسه، ماذا يفعل ذاك الجندي في فلسطين؟ لماذا يحارب الإنجليز في بلاد بعيدة؟ لماذا أجيّء أنا للدراسة في بلاد الضباب الكثيف؟ أليست القدس أولى بوجودي بها الآن؟ ماذا كان يهمس الجندي لفتاته قرب النهر؟ هل عاد من فلسطين حقاً؟ أهي معركته تلك التي هناك؟ أم أنها معركتي أنا؟ حربي أنا، روحي، كراكيبي التي أحملها معي، أمي، ماري، وصليب جدي وقلادة الجمعة الحزينة، وذبالة يترنح نورها في بنورة من غير سراج آه لو أذكر من جاء بها إليّ؟

"طوبى للحزانى الآن، لأنهم سيتعزون" (متى 5:4 ).

كانت ليلة طويلة موحشة، قضاها إلى جوار نافذة غرفته في دير العدس، ليس سوى الخمر والتحفز للقاء ماري مهما كانت الصعاب، سأراها وأحدثها بما يغمر القلب من شوق وحنين قال لنفسه، لن أتردد، ولن أخشى الخطيئة التي تخشاها أمي، يمكن لماري أن تُعيد قطع المسافة التي خطتها بالاتجاه المعاكس، ثم بعد ذلك ما من خطيئة ولا يحزنون، عندما شدني الشوق إلى القدس، قطعتُ المسافة بينها وبين لندن بالاتجاه المعاكس، لا شكَّ أن الأمر أكثر سهولة مما يبدو لوالدتي، قال لنفسه وهو يتجرع كأساً من النبيذ، قضى ليله بين وجه ماري وقباب القدس التي تُشرف عليها نافذة غرفته الصغيرة، بدا له أن ماري والقدس مثيلتا روحه.

دمْلَكَ كفه وصب ملء الراح من عطر الزنبق الذي اشتراه من سوق العطارين، قال له أبو صالح العطار: اغمر كفيك بهذا العطر وافرك بقوة وجهك والذراعين، سيهف الزنبق ويذهب برائحة النبيذ التي تنز من جلدك يا أبا جريس، نفخ على ظاهر كفه واشتمها ليتأكد أن الرائحة المجنونة تلاشت، " ربِّ أعطني ينابيع دموع كثيرة، كما أعطيت في القديم المرأة الخاطئة" اقترب من الشماس عند بوابة الدير، ألقى تحية الصباح، تنفس الصعداء ليس سوى رائحة الزنبق، يمكنني الذهاب إلى عملي مطمئناً، قال لنفسه، يُعرّفه العاملون في إحدى القنصليات الأجنبية في القدس بالسائق انطون التلحمي[57]، حيث تعود أن يعمل في إجازاته الصيفية، بينما يكنيه أهل القدس بأبي جريس، وما من جريس، هو حلم طالما انتظر أن يكون واقعاً، هل يأتي الفرح يوماَ عروساً تمسح تعب الغربة، وتُبرد نار الوحدة وتُضمد جرح الأيام.

كان في طريقه إلى عمله في حي الشماعة قرب باب الخليل، مرَّ بجوار مقام الشيخ ريحان، تمتم بسره السلام على ساكن المقام، ما كاد يرفع رأسه حتى رأى رجلا مُلقى على الأرض أمام البوابة الخضراء، عرفه على الفور إنه عمر بائع الحليب، لا بد أن الرجل تعثرت قدمه فسقط أرضاً قال لنفسه، اقترب منه، قال بصوت خافت، فهو يدرك أنه ما زال في حضرة الشيخ ذي الهيبة والوقار، باسم الرب تحميك العذراء، ماذا جرى لك أيها الجار العزيز، رفعَ عمر رأسه ولم يكن قد استيقظ تماماً من هول الصدمة، فما زال صوت الشيخ يطنُّ في أُذنيه، قال وهو يفرك عينيه بيديه كأنه يستيقظ من حلمٍ مزعج.

- صباح الخير يا أبا جريس، لقد تعثرت قدمي وسقطت أرضاً.

- لا بأس عليك.... سلَّمك الرب، المهم أنك بخير، أما الحليب فعوضك على الله، دعني أساعدك، انهض باسم الرب.

أمْسَكَ عمر بيد أبي جريس وأسند جسمه إليه، ثم نظر من حوله كأنه يبحث عن شيء ما، مدَّ يده إلى نافذة المقام جاءت بيضاء من غير سوء، مشيا حتى عبرا الزقاق باتجاه بيت عمر، قرع أبو جريس الباب فتحت الست فاطمة، وما كادت ترى أخاها مستنداً إلى كتف أبي جريس حتى صرخت بصوت مرتعش:

- خير، ماذا حدث لأخي.

- بأمر الله يا ست فاطمة هو بخير، لا تخافي، ما شاء الله، مثل الحصان، يبدو أنه تعثر وسقط على الأرض.

نظر عمر إلى أخته طمأنها ببعض كلمات، التفت إلى أبي جريس، شكره ودعاه لتناول طعام الإفطار، اعتذر الرجل وعاد إلى طريقه.

بدا عمر شارد الذهن، لم يستلقِ تحت شجرة التين، لم يغفُ، ولم يستمتع بأحلامه البسيطة كعادته، يكاد لا يصدق ما رأى وما سمع فجر هذا اليوم، هل حقا خرج له الشيخ ريحان... بشحمه ولحمه، يجب أن لا أُطلع أحداً على ما حدث، قال لنفسه، سيظنّ الناس أني أهذي، بل ربما ظنّْوا أني جُننت، لكن ماذا علي أن أفعل، وهل سيتركني الشيخ لحالي، وقد طلب مني أن أبحث له عن مجده الذي ضاع، أين سأبحث عنه وأين سأجد هذا المجد .... ولماذا أنا لماذا أنا يا شيخ ريحان، وهل أستطيع، وماذا لو كان مجد هذا خارج البلاد فعلا، كيف أبحث عنه هناك، وأنا الذي لم يغادر القدس يوما، ثم إن استطعت، كيف لي أن أعود به، هل يعبر مجد من حدود؟ هل حدث هذا يوماً، ثم ماذا لو كان ميتاً... لا..لا كما قال الشيخ، لو كان ميتا لعلم أولياء المدينة، الأموات كالأحياء يلتقون، وربما يتحادثون ويتسامرون، من يدري، إذاً ما العمل وماذا علي أن افعل، أي مجد هذا الذي سأبحث عنه، وقد غادر أهله الحي منذ زمن بعيد، وما عادَ لهم وجود، لا يعرف أحد أين ذهبوا، توفي الشيخ نامق ومجد ولده الوحيد، من سوف أسأل، ثم إن مجد هذا اختفى بصورة مفاجئة، ولا أحد يعرف أين ذهب، إذاً ما العمل، من أين أبدأ، وهل أبدأ، أم أنسى كل ما حدث وأعود إلى حياتي كأن شيئاً لم يكن؟ أجل.. أجل... ربّما كُنت أهذي، بل ربّما جُننت فعلا، وما من شيخ، وما من مجد وما من مقام، ربّما أن كل ذلك وهم....، يا إلهي رأسي يكاد يتفجر، أكاد أجن، آه...آه... ماذا عن الحليب، ماذا عن الزبائن، لعنة الله على... كدتُ أنسى نفسي،... لولا أبا جريس لبقيت طريح الأرض حتى أفاق الناس، يجب عليَّ أن أذهب بالحليب لزبائني، تأخرت على الصغار وسوف يُوبخني الكبار.

هكذا حدّث عمر نفسه قبل أن يطلب من زوجته أن تُحضر له دلة حليب أخرى، كانت زوجته هدى في تلك اللحظة، تطارد طفلها الصغير صابر، الذي خطف بيضة من تحت الدجاج ووضعها تحت السرير ثم وضع عليها وسادة ولحافاً وغطاها بطنجرة، أرادها أن تفقس له كتكوتاً صغيراً فوراً، صرخت الزوجة، عليك به يا عمر لقد خطف البيض، وقبل أن يجيبها عمر، تقدمت أم عمر بوجهها الأجعد وبنيتها القوية وشعرها الأبيض، وعيونها الصافية التي يُطل منها بريق حزين ونظرة تدل على بساطة وحكمة، ومسحة من جمال لم تطوِها السنين، تقدمت منهما وقد لاحظت شرود ذهن ابنها عمر، سألته:

- خير إن شاء الله يا ولدي، لماذا عُدت متكئاً على أبا جريس.

- خير.... يا أمي، ليس من شر، تعثرت قدمي ووقعت أرضاً.

- دعني أدعك رجلك بزيت الزيتون لن تشعر بأي ألم بعد ذلك.

- لا تقلقي يا أمي لا اشعر بأي ألم، أنا بخير.

أدارت الأم ظهرها وقد اطمأنت على ولدها، أمسكت بيد الطفل صابر برفق، طلبت منه أن يُعيد البيضة إلى مكانها تحت الدجاجة، وقالت:

- يا ستي، علشان تفقس البيضة وتصير كتكوت، لازم تبقى تحت الدجاجة وقت كافي، إذا أخذتها من تحت الدجاجة يا ستي عمرها ما بتصير كتكوت، فلكل مخلوق رسالة، ولكل شيء أوان وحضن ومكان .

قال عمر وكأنه يُكلم نفسه، وقد أنصت إلى كلام أمه:

لكل مخلوق رسالة، ولكل رسالة أوان. انتبهت الزوجة لحال زوجها، وثيابه التي بللها الحليب، وشرود ذهنه وتمتماته، سألته عن حاله وملابسه المبتله بالحليب، زجرها قائلاً:

- يا امرأة ألم تسمعي؟ لقد وقعت أرضاً.

ثم طلب منها أن تُجهز دلة حليب أخرى على عجل بدل الذي أريق على الأرض، وحتى لا يطول انتظار زبائنه، حملَ الدلة وخرج من البيت متفادياً المرور بجوار مقام الشيخ ريحان، أخذ طريقا آخر من الناحية الخلفية للزقاق مقابل دير العدس، حتى لا يجد نفسه مرة أخرى أمام الشيخ الذي نفد صبره وهو يبحث عن مجده الضائع.

الصفحات