أنت هنا

قراءة كتاب سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

كتاب " سرديات مقدسية - الشيخ ريحان " ، تأليف أحمد غنيم ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدم

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 4

يدركُ عمر بائع الحليب، ابن الخامسة والعشرين حولاً، أن تحنينه على بقراته الخمس لا يزيد من وفرة حليبهن فقط، وإنما يمنحه شعورا بالرضا والراحة، ذلك لعلاقة ودٍّ مميّزة بينه وبينهن بعد طول عشرةٍ ولقاء، فهو يعرف كل واحدة منهن، ورغم ميله إلى الكسل والنوم تحت شجرة التين نهارا، فإنه ما أهملَ بقراته يوماً وما ضَنَّ عليهنَّ جُهد أو رعاية، بل منحهن دائما حُبه ورعايته واهتمامه، هنَّ صديقاته اللاتي يبثهن شجونه ويشكو لهن متاعبه، هنَّ سلواه وأنيسات فجره ونهاره، يُميّزُ حركات كل بقرة، فيعرف ما يُرضيها وما يُزعجها، يُدرك معنى أن تميل برأسها أو تهش بذيلها، معنى أن ترفع قوائمها أو تحرك جفونها، يراقب اهتزاز جسدها ونبضات قلبها، فيعرف إن تضايقت من حرٍّ أو ارتعشت من برد، إن تألمت من مرض أو انتعشت من وافر صحة، إن خارت من جوعٍ ومن عطشٍ أو هنئت من طعام أو شراب، إن حزنت من وحدة أو أنست برفقة، يشعرُ أنها تُحنّن عليه كما يُحنّن عليها، ما إن يفكَ ذيلها المربوط إلى رجلها الخلفية ويُنهى حلبها ويلامس ضرعها مودعاً إلى بقرة أخرى، حتى تُحرك ذيلها فيلامس جسده تحية فرح ورضا هادئ.

نهضَ عمر حاملاً كرسيه القصير، نظرَ إلى عيني الموشية، رمشَ الجفن ثانية، وضعَ يديّه على حَجَبَتيه، فردَ قامته وقد انتهى من حلبِ بقراته الخمس، ثم دنا من الخَوَّار[15] بحذر، فرغم ما يكنّه من ودٍّ له فإن طبع القرهب[16] الحاد لا يترك مكاناً للهزل معه، شدَّه من قرنه، تنبهت مجساته عافط ونَفَطَ[17] وخار، نفلَ عمر ربطة من البرسيم رفده بها، وتمتم حمداً لله، ثم نادى بصوت خافت على زوجته هدى، طالبا منها أن توقظ أختيه فاطمة ونرجس لتحضير مؤن العلف والقش والبرسيم، نفضَ يديه، تقدمَ إلى حيث الحوض قُرب شجرة التين، خرير ماء تساقط من الدَّلْوِ المعلق على سارية بين رافعين من خشب الزيتون، قاما فوق راعوفة [18] البئر، سحبَ عمر إليه الحبل، مالَ بالدَّلْو على مرفقيه، انسابت صفحات الأيام، لم تكن تقلبات الزمن وصور الوجوه المتبدلة والأيدي الممتدة إلى الماء ذات مغزى مختلف، أنفاس حياة لافحة قادمة من بعيد، ترَجَّلَ فرسان أطلّوا من جبلِ المكبرِ والمشارف، افترشوا الأزقةَ والطرقات، قالَ الفاروق، جاوزتَ قِبْلَتهم يا كعب، التفتَ إلى الخلف، أزالَ بيده أوساخاً من زمن مُلتبس، فردَ عباءته، أتموا الصفوف وسدوا الفرج، صلى الفجر حاضراً في المسجد الأقصى.

طرقٌ خفيفٌ على الأبواب، أيقظَ صغار الحي، فتحوا أبواب الفجر، مدّوا كسرولاتهم[19]، سكبَ فيها من حنايا الروح حُباً ومن دلاته حليباً طازجاً دافئا. صوت المؤذن وطرقات بائع الحليب، ساعتا المنبه الوحيدتان للناس في البلدة القديمة، لكل حارة موعد يقظة، وشارة صبح وبائع حليب.

ما إن نسخَ الظلُّ شامسه قُرب حوض الماء وألقى الفَيْءُ بساطه تحت شجرة التين حتى استلقى عمر بجسمه النحيف، ووجهه النحيل ذي اللحية العارضة، والبشرة الداكنة، هناك في دعة وصفاء، كدأبه صباح كل يوم بعد أن عاد من صلاة الفجر وانتهى من توزيع الحليب، ثنى ذراعه، توَّسَدها تثاءب، مطَّ قدميه بتثاقل وخمول، غفي لهُلْجهِ[20] وأحلامه المعتادة على صوتِ بابور الكاز، وقرقعة خفيفة لحللٍ تستقُ بالأرض بين يدي أخته فاطمة، كان عمر يحلمُ بغمام أبيض، وأبقار تهيم وسطَ سماءٍ ذات ضروع كبيرة، وزخات حليب تتهافت من أهداب الغيم وتَتَرقرقُ على وجهه ناعمة رقيقة، أفاق من غفوته، رفعَ يده بتكاسل، مسحَ وجهه، فتحَ عينيه، نظرَ حوله، ما زالت أمه تجلس إلى الرحى تَحكُ بحجر بعضَ الَحلُوءِ[21] وتطحنُ بعضه ثم تَدَّحَشه في مُكْحُلَتِها لتعالج رَمَداً في عينيها وعوار القذى عن عيون الصغار، صكَّ عمر أسنانه وحرك شفتيه، عادَ وغفا من جديد، قلَّبَ ساعات النهارِ، وعندَ السَّراةِ أفاقَ من تَهَوُّمِه[22] ونهضَ متثاقلا، أقتربَ من البئرِ مالَ بالدَّلْو قليلا، سنَّ الماءَ على وجه، انبعثتْ رائحةُ قدحةِ الثومِ بالسمن البلدي والكزبرةِ الجافة، قبضَ حفنة أرز من الحلةِ ازْدَرَدها على عجل، بينما كانت أخته نرجس تفرد طبلية الطعام عند حوض الماء، وتتذمر بسرها من أبناء أخيها، كيف بعثروا أعواد الملوخية في حوش البيت بعد أن كدَّت في شطفه وتنظيفه منذ الصباح، تناول طعامَ الغداء مع أسرته مبكرًا بعد صلاة الظهر على دأب أهلِ القدس، قَنْفَشَ كمه مسحَ بها على شفتيه بعد أن هَبَرَ ما في القدر، أخبرته أُمه أن السقا غابَ عن موعد الماء، فنفد بئر البيت أو كاد، أكثر ما يزعج عمر إحضار الماء من أبيار الحرم الشريف، أو بير أيوب، وعين أم الدرج في سلوان، أو سبيل باب السلسلة أو الواد والتي تزود المدينة بالماء من برك سليمان عبر قنوات تحتية من جنوب غرب البلدة القديمة، ليس أشق على عمر من تلك المهمة، التي تتطلب حملَ تنكتين موصولتين إلى حبلين يتدليان من طرفي رافع من خشب البلوط الغليظ على كتفَيِه، ثم صعود درجات عقبة دير العدس والشيخ ريحان ذهاباً وإياباً حتى تكتفي البئر، لذا أجَّلَ المهمة ليوم أخر، علَّ السقا الذي يخدم الموسرين من أهلِ القدسِ، يأتي ويُفرطُ في سقاءِ البئر ويكفيه شرَّ هذه المهمةِ القاسية، استلقى عمر من جديد في ظلِّ التينة الباسقة، عادِ إلى شخيره البطيء وأحلامه الصغيرة، دقتْ أجراسُ كنيسةِ دير اللاتين، نهضَ إلى دلو الماء، مَتَحَهُ[23] وصبَّ بعض ما فيه على رأسه، ثم نفض رأسه ليطرد عن وجهه بعض قطرات الماء المنساب وبعض من وسوسات قيْلُولَته المُزْمِنة، فردَ جسمه ورفعَ وجهه نحو السماء، بَدَتْ صافية زرقاء إلا أنها نيسانية لا تخلو من بعض غيمات سابحة في ملك الله، قدّرَ أنها قد تُبدلُ حالها دون إنذار، لذا تناول سترة الكتان المعلقة على مسمار خلف باب غرفته الخشبي، نَهَرَ على زوجته هدى كي تُنظف باحة البيت حتى لا تزعج نرجس بما تركت خلفها من أثار الطبخ ثم خرج من البيت، مرَّ بمقامِ الشيخ ريحان، سلَّم على ساكن المقام، واصل طريقه قريبا من دير العدس إلى باب الغوانمة، دَنتْ برتقالة العصرِ من وسادتها فوقَ حي الشرف، مدَّتْ خيوطَ نورها البرتقالي على صفحة القبة الذهبية، تلوّنت وجنة الأفقِ وزهت، ارتفعَ صوتُ الأذان، مدَّ يديه توضأ من مياه بركة النارنج عند سبيل قايتباي قربَ بابِ السلسلة، انسابتْ صفحاتُ الأيام، لم تكن تقلباتُ الزمنِ وصور الوجوه المتبدلة والأيدي الممتدة إلى الماء ذاتَ مغزى مختلف، أصطفَ رجالٌ من أجنادِ الشامِ على جانبي نهر من ماء وخضرة وتلال، عَلَّقَ شداد بن الأوس[24] بيرقاً على ساريةِ البئر، استوى عبادة ابن الصامت[25] للناس في مجلسِ قضائه اليومي، صلى العصرَ حاضراً، قضى ما تبقى من نهار جوال في أحياءِ المدينة، اقتربتْ حبةُ البرتقال من مرقد نومها وفرشتْ سجادةً من حمرةٍ ناعسةٍ على تلالٍ بعيدةٍ خلفَ الأسوارِ وعلى أكْنَانٍ[26] ضمَّها الأفقُ وحَضَنَتها الغاباتُ الخضراء، وشيئا فشيئا أرخى الظلامُ جُفونَه وارتدتْ المدينةُ حلةَ المساء.

جلسَ عمر إلى كرسي من القشِ في مقهى الباسطي قربَ الهوسبيس السويسري، كان المقهى مكتظا بالسامرين، أخذَ رشفةً بصوتٍ مرتفعٍ من فنجانِ قهوةٍ على طربيزةٍ صغيرةٍ أمامه، أربكَ الراوي وخلخلَ انسياب الرواية، رفعَ أبو وهيب خيزرانته وحملقَ في وجهه بغضب شديد، تمايلتْ كوفياتٌ واهتزتْ طرابيشٌ على الرؤوس، تَدارَءَ القومُ وعجتْ أجواءُ المكان برائحةِ التتن، نهضَ الأسدُ الكرار، والبطل المغوار الذي شاعَ ذكره في الأقطار، أقسمَ أن ينقطعَ عن اللهو والشراب، وأن يعتزل النساء والديار، طوال ليله والنهار، امتشقَ المهلهلُ سيْفَه البتار، نادى في تغلب يا دمَ كليب، فأرهبَ القبائلَ والأمصار، صرخَ في جمعٍ من قومه والأنصار، " انهضوا من سباتِ الذلِ إلى ثأركم، لا أصلحَ الله منا من يصالحهم حتى يصالح ذئب المعزِ راعيها " .

عادَ إلى أهْيل بيته، قريباً من مقام الشيخ ريحان، عند مفترق الطريق الواصل بين عقبة خضير وباب العامود، تُطلُ بوابةُ البيتِ الخشبيةِ إلى فِرْسَاخٍ من الأرض، يتفرعُ منه طريق زقاق يؤدي إلى ديرِ العدسِ من جهة، وإلى طريقِ الوادِ من الجهةِ الأخرى، تَعْبر من البوابةِ إلى حوشِ مستطيل، عند طرفه الأيمن شجرة تين فارعة بأوراقها الكثيفة وأغصانها الباسقة، فرشت ظلَّها فوقَ حوضِ ماءٍ دائري كَتِنَتْ شقوقُ حجارته عن بعض طحالب وأزهار خضراء، ينساب فيه ماء فرات من مِيزابان يتصل ببئر يقوم فوقه رافعان وعارض من خشب الزيتون، يتدلى منه الحبل الموثوق إلى دلوٍّ من كاوتشوك أسود في جراب البئر، ومن يسار البئر شجرة جُميز تمدُّ أطنابها على طيَّات البيتِ لكنها بَدَتْ شاحبةَ الأوراقِ ذابلة، وإلى الجهة الأخرى جدار من الحجارة المنقوشة المظللة بأغصان مدادة عجوز، تدلت أوراقها على ثلاثة أبوابٍ خشبية، تفصلُ بين كلِّ واحدٍ منها نافذة من زجاجٍ براق ملون، تعكسُ ضوءاً خافتاً ينسابُ مثل الماء من قنديل زيت معلق على الجدار المقابل، الذي تتوسطه نافذة غرفة أخرى وضعَ عند طرفها كوزاً تَعَرقَ بالماء، وإلى جواره زير من الفخار.

ألقى عمر تحيةَ المساءِ على أمهِ وأختيه، اللواتي رقدنَّ من تعبِ يومٍ شاق، في غرفة إلى جوار مخزن المؤن والعلف، أطلَّ بنظرةٍ إلى يخورِ البقرِ في الواجهةِ المقابلةِ لبوابةِ الحوش، حيث يربعُ هناك خوار وخمس بقراتٍ دِرابٍ وعِرابٍ وفِراشٍ وقهدٍ[27] رضيع، وبِضْع عنزاتٍ ساجسيةٍ وشاميةٍ نفضنَّ بين فينةٍ وأخرى بذيولهنَّ قوراصَ البعوضِ والبق، أشعلَ عمر بعضاً من الروثِ الناشف، فنفر قِرْقِسُ[28] الليل وجِرْجِسه، دخلَ عمر إلى غرفته، ألقى نفسه بضع دقائق إلى فراشٍ فوقَ حصيرٍ من القصب، ضمَّ أطفاله عادل وصابر وربى، قبَّلَهم مدَّ الغطاء فوقَ أجسادهم الطرية ونهض، خلعَ ثوبه ودسَّ نفسه بهدوء من تحتِ غطاء ثقيل إلى جوار زوجته وغطَّ في نومٍ عميق.

الصفحات