أنت هنا

قراءة كتاب سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

سرديات مقدسية - الشيخ ريحان

كتاب " سرديات مقدسية - الشيخ ريحان " ، تأليف أحمد غنيم ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدم

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 6

مجد الشيخ ريحان سيد أولياء المدينة

رتيبةً تسير حياتكم لأنكم لم تعرفوا مجد، ولم يسلبكم شعره المخضب بالجلَّنار[34]، ووجهه الوردي الذي قبلته العصافير، فنمشت وجنتيه، كيف للقلب أن يخفق دافئا وليس تُوقد فيه رجفة الرغبة ونار الاشتياق، وبلا مجد هل تكون الدنيا إلا لحظة للسهو تعبر ليس تعرفها الأماني ولا تحاكيها الأغنيات، لماذا لم تعرفوا مجد، وقد سافرت أنا في ربيع عينيه، وما تعبت خطاي، لماذا لم تسمعوا همس الأحلام توشوش الليل وطرقات القدس وتبكي حين يغالبها الوجد وتسأل، أما عاد مجد، خَطَّـتْ سيدة الحكاية كلماتها في دفتر صغير، و"نونست" ضوء المصباح وغالبت جفونها المتعبة.

مميّزاً ليس لحمرة وجنتيه، وندى الصبح على جبينه ودَماثَة خلقه وحسب، بل للصبا المتوقد فرحا وحُبا للأرض وللناس، حنونا مثل جُدران المدينة، تعانق بعضها وتحضن الأهل والأحباب، ناعماً مثل نداء الفجر، طيبا كحبات العنب وجامحا مثل رياح كانون إن جدَّ النزال، منذ صغره تعود أن يحضر كل مساء إلى مقام الشيخ ريحان، سيده الذي ما رآه يوماً، لكنه آمن دائما أنه حارس الأحلام التي لم تولد، ما بخل مجد يوماً على المقام وسيده بزيت أو شموع، أضاء عتمة المغارة الصغيرة من فتحة نافذة عند الجدار الأيمن لبوابة المقام الخضراء، الذي يقع في البلدة القديمة من القدس، عند مدخل زقاق ضيق في حي يحمل اسم سيد المقام، محاذيا لوسط الجهة الشمالية لبوابة الغوانمة، إحدى بوابات الحرم الشريف، التي تصل طريق الآلام مع عقبة الراهبات، حيث أعلى درجات تتوسط دير العدس وراهبات الوردية، صعودا إلى اليسار بضع درجات أخرى، تعبر إلى زقاق ضيق، من تحت بناء حجري قديم على شكل قوس يمتدُّ حتى نهاية البناء المسقوف، تُطل من أعلى واجهته الأمامية شبابيك البيوت والمشربيات الخشبية، إلى يمينها نوافذ الطابق العلوي للمقام، يقع تحته باب لمغارة معتمة صغيرة، يقوم فيها ضريح الشيخ بحلته الخضراء، يُفضي الزقاق إلى مفترق يصل عقبة الميلوية وحارة السعدية مع الشيخ ريحان، تتواصل البيوت يحضن بعضها بعضاً، حجر يحتضن حجراً، ونافذة تهامس أخرى وسطح يسامر سطحا، وقبة تمتدُ إلى أخرى، ومقام يناجي مقاما، حتى تلتف المدينة على نفسها وتتشابك حاراتها وأسواقها، أحياءها وأمواتها، ماضيها وحاضرها، بعضها يحتوي بعضاً، تتداخل أحياؤها كأنها نسيج كائن أسطوري.

هنا كل شيء عزيز، كل شيء نفيس وذو قيمة، البيوت والحجارة والجدران، ذاكرة مجبولة بالقداسة والأحلام وتراتيل الأنبياء، هنا تدوم الدهشة وتُومض مفاجئات الانبهار، هنا يذوي العادي وتتفتت رتابة الصيرورة، وتفشخ الروعة ناصية الحضارات، فتفيض روح المكان المُطهمة بالقداسة وتتجلى القدرة الإلهية مع عظمة الإبداع الإنساني في غُبارِق المعمار الذي يُعَبِرُ عن صفاء روحي فريد، هنا حيَّز يتسع لأكثر من زمن في آن معا، هنا يحيا التاريخ داخل الناس ويحيا الناس داخل التاريخ الذي تُشتم أنفاسه في كل زاوية وزقاق، هنا أزقة ضيقة لا يتسرب منها الماضي من زمن إلى زمن آخر بشكل تام، هنا تحمل المدينة بين جنباتها وأضلاعها الماضي بكل أحداثه التي كفنها وقبرها في صدر الأرض، وأنشأ شواهدها على السطح بعداً أخر للحاضر، هنا تَدْلَحُ الحضارات حكاياتها على وجه الحجارة والناس، هنا لا يولي الزمن ولا يطوي أيامه بل يرسم على جباه المدينة صورة لواقع خالد، هنا تخاطبك روح المكان التي تنسل إليك من عبق صوفي عتيق، وتَسْبَحُ في فضاء المدينة جزر من نجوم تتلألأ في الغامق، فيمور النور وتتنزل الملائكة والروح فيها، ترتل فيغمر صوتها تلال الحلم وشفاه الهواء، هنا يُسبح لجلال الخالق كل شيء، الناس والحصى وحبات القمح واليمام، هنا ليس لك أن تمشي إلا خاشعاً وئيد الخطى، لأن أقدامك تحطُّ على فَدَّاد[35] من القوم وعلى أديم من العالمين، هنا قد يشيخ الناس وتتبدل الوجوه، لكن المدينة تبقى في شبابها القديم، متحفاً مأهولاً ليس في جنبات الأرض له مثيل، هنا القدس طاهرة الاسم في دلالة معناه تنزهت عن كل عيب ونقيصة، هنا مدينة حية تنفث روحها على مدى الزمن، من بدايات بعيدة ليس تنتهي.

قد يبدو لمن هو غير عارف بالمكان أن مدينة يتكدس فيها الألم والفقر والبؤس في الطرقات، وينخر الإهمال عمرانها، ويعشعش الفُدْس والَهبُورُ[36] في حنايا أزقتها، ليست جديرة بامتلاك آيات الجمال، وقد يعتقد البعض أن الحديث عن ذلك الجمال ما هو إلا هوس عاشق انصهرت روحه في روح المدينة، فبات لا يرى جمالاً يوازي جمالها، لكن أهوالاً من واقع ثقيل عبر عهود ممتدة، جثمت على صدر المدينة، غير أنها لم تمنع بعث النضارة في وجهها الشاحب من لحظاتٍ هوت بها عن قمة مجدٍ طَحْطَحه[37] الجهل والعجز والخذلان.

دنا كعادته هادئ الخطى من نافذة المقام، أشعلَ شمعة مال بها، انسابت قطرات بلورية لزجة، ثبّتَ شمعته على بلاط النافذة، ترنح نور الشمعة مع أنفاسه الساخنة، مدَّ يده إلى سراج قرب الباب ملأه زيتاً فتلألأ نور خافت في أرجاء المكان، كشفَ عن مرقد ساكنه ذي الحلة الخضراء والشاهد المغطى بعمامة بيضاء، للوهلة الأولى يُخيل للناظر أن الشيخ قد استلقى في مجلسه وسط الحجرة معتمراً عمامته متوسدا وجهه المستدير بكف يده، وقد تلألأ جبينه الأَبْلَج[38] وبانت قسمات وجهه الهادئة، وربما اعتقد الناظر إلى الضريح أن الشيخ يغفو في دعة وسكينة بعد جهاد يوم طويل.

أطلَّ مجد إلى نافذة المقام، تمتم بفاتحة الكتاب همساً، كي لا يؤرق نوم الشيخ الجليل، تملكه شعور بالرهبة وهو يرى النور يترنح هادئاً كأنه يداعب عمامة الشيخ بجلال وخشوع صامت، شعرَ بحرارة تسري في عروقه، هو الخوف حينا والحب والتبرك والإجلال حيناً آخر، كان يعلم أن عدداً من أبناء الحي يُحضرون الزيت والشموع للمقام المبارك قبل أن يَدْلَهِم الليل، لكنه أحسَّ دائما أنه مختلف عن الآخرين، شيء ما يربطه بهذا المكان، ليس ما تعوده الناس من رغبة بالتبرك وزيارة المقام وحسب، شيء ما يشدّه إلى هنا، كأن قوة عظيمة تربطهما معا، ربما التبس عليه تفسير ذاك الشعور أو فهم معناه، شيء ما يدفعه دوماً إلى هنا، أحبَّ مجد الحي والزقاق وسيد المكان، وأحياناً كان يصعب عليه فهم الفرق بين الشيخ وبين المقام، وأغلب الظن أنه كان مقتنعا أنهما شيء واحد، وأنهما كانا هنا دائما.

يظن كثير من سكان الحي وبعض أهالي القدس أن الشيخ الصالح الذي جاء إلى المدينة مع الفاتحين في عهد الخليفة عمر، رضي الله عنه، كثيراً ما كان يخرج من مقامه، خاصة أيام الخميس من كلِّ أسبوع، يتجول في أنحاء الحي والمدينة، وربّما يدخل إلى أحد البيوت يجالس أهله ويأنس بهم بعض الوقت، ثم يخرج دون أن يُحَدِث أحد، وما إن يشعر أحد من سكان الحي بالشيخ الزائر، حتى تسمع صوت البسملة والتمتمات الوجلة، وربّما أشعل البعض نوعا معينا من البخور المفضل للضيف المبارك، منذ مدة طويلة انقطع خروج الشيخ من مقامه، وما عاد الناس يذكرون أنهم شاهدوه يتجول في أنحاء المدينة، أو أنه زار بيوتهم، إلا أن الجدات ما برحن في ليالي القدس المُدْلَهِمَّة الماطرة يروين قصة الشيخ الجوال لأحفادهن، خاصة عندما يجلسون إلى كوانين الدق ذات الجمرات المُلْتَهِبَة، التي يداعب وهجها عيون الأطفال وينشط خيالهم، فيُحلقون في فضاءات بعيدة، يرسمون في أذهانهم صورة للشيخ بملابسه الغريبة وعمامته البيضاء، وربما تخيلوه يقف أمامهم، أو أنه يفتح أبواب البيت ويدخل إليهم، ومع أن الأطفال والناس عامة في القدس قد ألِفوا حكاية الشيخ حتى أصبحت والشيخ جزءاً منهم، إلا أن رهبة المقام وهيبته بقيتا في قلوب الناس دائماً.

آبَ عمر عائداً إلى طيَّه في ضوء قمر أوشك على الرحيل، تابع أبو وهيب السرد ولوّحَ بخيزرانته فألهب أسماع الحاضرين، بدا الزقاق حُلما، تفتحت شجرة الجميز، خيال مشربيات النوافذ وستائرها عبثت بها نسمات ريح لطيفة، انعكست صورتها على جدار الطريق، سبح الله وشكر فضله ونعمته عليه وعلى عائلته بما منَّ عليهم من رزق، أشعل بعضا من روث ناشف وطوى ليله حتى بزغ فجر جديد، قام وصلى وهزت أبقاره ذيولها أنساً، ثم حملَ عمر دُليَّ الحليب وانطلق إلى زبائنه مع دُغُنَّة[39] نهاره الجديد، يمَمَ شطر مقام الشيخ ريحان، قرأ فاتحة الكتاب، رفعَ يده تحية، السلام على ساكن المقام، قال، وأغلب ظنه أن الشيخ انتهى من صلاةِ فجره، وتوسَّدَ كفه وغفي من جديد، كان في ذهن عمر أن يصل إلى بيوت زبائنه سريعاً، حتى يُسلِمَ لهم حليبا طازجا دافئا ولبناً ظلِيما، انطلق مهرولا يُسبح وُيتمتم باسم الله الرزاق الكريم، رأى باب المرقد يُفتح، ظنَّ للوهلةِ الأولى أنَّ أحد المُكلَفين برعاية المقام قد انتهى من عمله وهَمَّ خارجا، تلوى النور من سراج المقام وتموَّج في رذاذ تسلل من صير الباب، أُعبق الزقاق بفنعٍ وطيب، فجأة رآى شيخاً عَطَرَّدُ القامة، مضمخ بالمسك، يعتمر عمامة بيضاء، أبلج الوجه، وديع المظهر دون اخلال بهيبة الهيئة والقوام، ذو عينان سوداوان براقتان، يرتدي جلباباً داكنًا فضفاضاً، وعباءة خضراء امتدت إلى القدمين، عبَرَ من نقطة ما تحت قوس الضياء، متحرراً من علة الزمن، كأنه يَهْدَجُ[40] فوق جسد التاريخ، .

تجاهل الشيخ خوف عمر وهلعه، بدا كأنه يُكمل حديثاً متصلاً سابقاً ومعلوماً.

الصفحات