أنت هنا

قراءة كتاب وللحج مقاصد لو نجتهد لتلبيتها

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
وللحج مقاصد لو نجتهد لتلبيتها

وللحج مقاصد لو نجتهد لتلبيتها

كتاب " وللحج مقاصد لو نجتهد لتلبيتها " ، تأليف محمد عدنان سالم ، والذي صدر عن دار الف

تقييمك:
4.66665
Average: 4.7 (3 votes)
الصفحة رقم: 1

في مدرسة الحج المتفردة

لم يكن هلال ذي الحجة من عام 1419هـ قد أهلَّ بعدُ، عندما وصلتُ المدينة المنورة، وكنتُ قد آثرت أن أبداً بها رحلتي إلى الحج، أستأنس بها، وأتزود من روحانيتها، وأنهل من جلالها وجمالها، وأستذكر من تاريخها، وأستنطق من جبالها وسهولها؛ ما يعينني على خوض غمار (دورة الحج) التي أزمعتُ الانخراط فيها، والتفرغ لها هذا العام. و(دورة الحج) - كما يحلو لي أن أسميها، وكما بدت لي من خلال تأملاتي الهادئة في مسجد الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام- دورة تدريبية صارمة، ذات برامج تثقيفية وتربوية تطبيقية مكثفة، تنظمها كل عام مدرسة بيت الله الحرام الذي رفع قواعده أبو الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل، ثم دعوا الله أن يتقبل منهما، وأن يبعث في ذريتهما رسولاً منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فكان ذلك البيتُ أول بيت وضع للناس {مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ ¾ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 3/96-97] .

والميْدان الذي تقام فيه أنشطة هذه الدورة هو الوادي الذي أسكن فيه إبراهيم من ذريته مبتهلاً إلى الله {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم: 14/37] ، فتقبل الله دعاءه، قائلاً له: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 22/27-28] ..

هكذا كان دعاء إبراهيم أكثر الأدعية الإنسانية بركة، وأطولها عمراً، وأبقاها أثراً، فما تزال أفئدة الناس تهوي إلى البيت الحرام، ووفودُهم تتكاثر عاماً بعد عام حتى ضاق بهم الوادي ذرعاً، وألجأ إدارات الحجّ إلى التشدد في طلبات الالتحاق بدوراته السنوية، للحد من تكرارها، وإفساح المجال لحجاج جدد، لم يسبق لهم أداؤها..

ذلك أن اتباع (دورة الحج) إلزامي، فهو فريضة على كل مسلم مستطيع {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 3/97] ؛ فريضة تسقط عن المسلم إذا أداها مرةً في العمر، ولا يُقبل فيها البدل إلا لعذر شرعي.. وإنما كانت كذلك لما تنطوي عليه من معان سامية ودروس بالغة، لا يمكن تبليغها إلا بالرحلة إليها، ولما تتضمنه من شعائر لا بد من ممارستها، فهي رحلة العمر التي يتوِّج بها المسلم وعيه الاجتماعي من خلال عبادات تتدرج به من صلاة الجماعة في مسجد الحي إلى صلاة الجمعة في المسجد الجامع في المدينة، يجتمع فيها المسلم مع إخوانه يوادهم، إلى صيام وزكاة يشاركهم بهما جوعهم وعطشهم ويتحسس آلامهم ويعينهم على قضاء حوائجهم، إلى حجٍّ يخرج به بعيداً عن أهله ومجتمعه الصغير،إلى مجتمع عالمي كبير، يجتمع فيه المسلمون على صعيد واحد، ليستيقنوا وحدة أصلهم على اختلاف ألسنتهم وألوانهم "كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى ". وليتعارفوا على اختلاف شعوبهم وقبائلهم {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 49/13] .

وحين يعود المسلم من رحلة الحج إلى بلده، فإن المجتمع يمنحه شهادة تقديرية عظيمة، ويضفي عليه لقب (حاج) في احتفال كبير تضاء له الأنوار وتنصب الزينات وتقدم الهدايا، وهو درجة أخلاقية تختلف عن الدرجات العلمية، فهي ترتب عليه في المجتمع من الواجبات أكثر مما تمنحه من الحقوق، فقد أصبح حاجاً لا يليق به أن يكذب أو يغش أو يخلف الوعد أو ينقض العهد أو يأتي المنكر أو يسيء إلى أحد أو يُرى حيث نهاه الله أن يكون..

ظلت هذه المعاني السامية للحج تتدفق على خاطري، كلما اعتكفت في مسجد الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم، وكنت قد اتخذت لي فيه مكاناً قبالة الروضة الشريفة أبكر له قبل الأذان كي لا يفوتني.. حتى قطع علي تأملاتي يوماً شاب قدم نفسه لي بلغة عربية تعروها لكنة أعجمية، على أنه بوسني يدرس في الجامعة الأردنية، وقد جاء ضمن بعثتها إلى الحج، فعرفته بنفسي، ورأيتها فرصة أثري بها تأملاتي، وأضم إليها انطباعات شاب مسلم ينتمي إلى بيئة أخرى غير بيئتي، فبادرته بسؤال عن انطباعاته في بداية رحلته إلى الحج، فحدثني عن إعجابه بتوسعة الحرم وعظمة البنيان ووفرة الخدمات.

ثم أردف قائلاً: لكن هذا كله ليس بالذي يبهرني فأنا أرى نظائره في كل بلد متحضر.. إنما جئت لأشاهد أين كان الرسول الأعظم يسكن، وكيف كان يعيش، وكيف كان يبلغ الرسالة، ويهدي النفوس، ويشيد حضارة الإسلام، فأنا أشعر أني فسيلة من غرسه، ونبتة من بذره، وشعاع من نوره،جئت أبحث عن جذوري في أعماق الزمان والمكان، عن أصولي التي كلما أوغلت في أعماق التاريخ، امتدت فروعها لتملأ جنبات الأرض، وتفرعت أغصانها لتطاول السماء، متحدية كل الصعوبات والعوائق..

تهفو نفسي إلى غار حراء لتصغي إلى نداء {اقْرَأْ} [العلق: 96/1] يهبط به أمين الوحي جبريل ليلقي به بنبرة صارخة حازمة في أذن الرسول الأمي الكريم، يكررها الأمين ثلاثاً تتزايد شدتها وتتسارع وتيرتها مصحوبة ًبضمة شديدة تبلغ منه الجهد- كما ورد في الحديث- كمن يريد أن يوقظ أجيال الإنسانية القادمة على التوالي حتى قيام الساعة، في شخص هذا الإنسان العظيم.

الصفحات