أنت هنا

قراءة كتاب الشعر في العصر الأموي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الشعر في العصر الأموي

الشعر في العصر الأموي

كتاب " الشعر في العصر الأموي " ، تأليف د. غازي طليمات و أ.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 9

2- توريث الحكم:

عزوف معاوية عن الشورى أغراه في الصدوف عن تولية الفاضل إلى تولية المفضول، ذاهباً إلى إجازتها إذا كانت تحقن الدماء، وتضمن الاستقرار. فأخذ البيعة من بعده لولده يزيد، وفي المسلمين أمثالُ الحسين بن علي، وعبدُ الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير. ولعلّه فعل ما فعل ليجنب الأمة ما قد يعرض لها من اصطراع الأطماع في سبيل الظفر بالحكم، لا إيثاراً لولده وحسب. ومهما يكن الدافع الذي دفعه إلى أن يخطوَ بالحكم هذه الخطوة الراجعة، فإنه ابتدع بدعة كسروية أو قيصرية، حوَّلت شورى الخلافة إلى وراثة الملك.

3- المال في مصلحة الحكم:

والسمة الثانية تُفضي إلى ثالثة، وهي تسخير المال لحماية الحكم الملكي من الانهيار، إمّا بتألّف القلوب المعارضة، وإمّا بتأكيد التأييد من الأنصار القدماء. وهذا التبذيرُ في الإنفاق لا يعني الحيف على أعطيات الجند، فإعداد الأجناد للجهاد كان له الحظُّ الأوفى، وما فضل من المال يصيرُ إلى المعارضين ليؤيّدوا، أو إلى الأعوان ليقيموا على العهد.

في عهد الراشدين، وخاصّة في عهد عمر، كانت الأعطيات تقدّر بحسب السبق إلى الإسلام والتسابق في نصرته. وفي عهد الأمويين أصبح مقدار العطاء يُقاس بمقياس آخر، وهو الإخلاصُ للحكم، والتفاني في خدمة الحاكم، والعمل على ترسيخ الدولة. وعلّل الأمويون صنيعهم هذا بأن الدولة تمثل الإسلام، وتنبثق منه، فمن دافع عنها وأيّدها، فإنه يدافع عن الدين ويجاهد في سبيله. ولمّا كان الناس على درجات متفاوتة في الإخلاص، فإن أعطياتهم كانت على درجات متفاوتة في المقادير، وليس من حقّ أحد أن يطالب الخليفة بالمساواة أو الإنصاف لأنه أعلم من الرعية بمصلحة الدولة، وأحرصُ منهم على حمايتها وتثبيتها.

4- العصبية القبلية فالقومية:

إذا تتبعت المراحل التي جازها معاوية من الولاية على الشام إلى الخلافة أدركت أنه سبق ابن خلدون في الكشف عن قاعدة سياسية مطّردة، وهي أن النظام الملكي لا يستمرُّ، ولا يستقرُّ إلا إذا جُعلت العصبيةُ ركناً من أركانه، أو سمة من سماته.

قال ابن خلدون[9]: «وصاحبُ العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها. فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتّباع، ووجد السبيل إلى التغلُّب والقهر لا يتركه لأنه مطلوبٌ للنفس، ولا يتمُّ اقتدارها عليه إلاّ بالعصبية التي يكون بها متبوعاً. فالتغلُّب الملكيّ غاية العصبية كما رأيت. ثم إن القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات مفترقة، وعصبيات متعددة، فلابد من عصبية تكون أقوى من جميعها، تغلبها، وتستتبعها، وتلتحم جميع العصبيات فيها، وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى، وإلاّ وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتنازع».

لقد وقع معاوية على هذه الحقيقة، فأقام ملكه فوق عصبيات على صورة دوائر آخذة بالاتساع: أضيقُها وأقواها العصبية الأموية، وأوسطها اتساعاً وقوة العصبيةُ العربية الشامية، أي: العصبيةُ المستمدة من تأييد عرب اليمن المقيمين في الشام، وأوسعُها وأقلُّها قوة العصبيةُ العربية في نطاقها القومي الواسع. ولكل دائرة من هذه العصبيات مجالٌ تجول فيه، وخصوم تناوئهم، وتردُّهم عن أن ينافسوا الأمويين. فالأولى يجابه بها الأمويون الهاشميين وغيرهم من بطون قريش كالزبيريين. والثانيةُ موجَّهةٌ إلى مناوأة قيس ومضر وعرب نجد والحجاز، وبالثالثة يقاومون المواليَ والشعوبَ غير العربية إذا خامرها الطموحُ إلى الحكم.

وحُجَّةُ الأمويين فيما ذهبوا إليه، وهم يقسمون الرعية إلى طبقات أساسُها العصبيةُ، أن بني أموية انتزعوا الخلافة من العرب، بدمائهم وذكائهم، وأن العرب فتحوا البلاد الأخرى ونشروا فيها الإسلام بجهادهم، فهم أولى من سواهم بالتكريم. وعلى هذا النحو بنى الأمويون هيكلهم السياسي على شكل هرم: رأسُه الخليفة الأموي، وأقربُ الناس إليه الأمراءُ، وهم من بني أمية، وحقُّهم في الدولة فوق حقوق العرب الآخرين، يليهم عربُ الشام، وحصّتُهم من المناصب والمكاسب تفوق ما يُعْطاه عربُ نجد والحجاز. ثم تأتي قبائل العرب كافَّة، وهم فوق الأعاجم، ودون الأمويين وعرب الشام. وفي أسفل الهرم المسلمون من غير العرب، وهؤلاء لا يُسمح لهم بأن يكونوا قُرناء العرب وأكفاءهم، لأنهم ما بذلوا مالاً، ولا أراقوا دماً في بناء الدولة، فكيف يُقْرنون بمن بذلوا وقاتلوا وقُتلوا؟

وقد عادت العصبية القومية على الأمويين بفوائد: أُولاها أن العرب على اختلاف قبائلهم ومراتبهم ظلُّوا القوة المحاربة التي تعتمد عليها الدولة في الفتوح، والثانيةُ أنّ الدولة عرّبت الدواوين، فلم تسمح لمن كانوا يعملون فيها بأن يستعملوا الفارسية أو السريانية كما كانوا يفعلون في بداية الأمر. والثالثة أن الوظائف الخطيرة كالقيادة والقضاء وجمع الضرائب وكتابة الرسائل بقيت كلُّها أو جلُّها في أيدي العرب. والرابعةُ أنها جعلت غير المسلمين من العرب أنصاراً للدولة لا مناوئين لها. غير أنها أوجدت التربة الخصبة التي بُذرت فيها البذورُ الأولى للحركة الشعوبية.

5- الصبغة الدينية:

ذكرنا قبلُ أن الزعامة التجارية والعسكرية في العصر الجاهلي كانت لبني أمية، وحينما أسلموا ظلَّ الحنين إلى هذه الزعامة يراودهم طَوالَ العصر الراشدي، لكنهم كانوا يعلمون علم اليقين أنّه لا انفصال في الإسلام بين الدنيا والدين، ولذلك لم يدعوا الهاشميين ينتزعون منهم الصبغة الدينية، بل تعلّلوا بمقتل عثمان، وجعلوا المطالبة بثأره ضرباً من التقوى أو نصرة الحق تصديقاً لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 17/33] .

وفي السياسة لا يعنينا أن نشقَّ عن قلوب الخلفاء الأمويين لنقيس إيمانهم بإيمان الخوارج، أو آل البيت، أو الزبيريين، ولا يعنينا كذلك أن نقرن فهمهم للإسلام بفهم الأحزاب الأخرى، وإنما يعنينا أن نجيب عن الأسئلة التالية: هل حافظوا على الصبغة الدينية في الحكم؟ وكيف تجلَّت هذه الصبغة؟ وما الفرق بين حكمهم وحكم الراشدين؟

كان للدين في حكم الأمويين مكانة مرموقة، لا ينكرها عليهم أحد، إذْ حافظوا على شعائره، ولاحقوا الزنادقة، وعاقبوا أهل الابتداع، ولم يظهر في خلفائهم من تجرّأ على حرمة من حرمات الله. والمتَّهمون بشرب الخمر - وهم يزيدُ الأول ويزيد الثاني والوليد بن يزيد - لم يشربوا الخمر - إذا ثبت أنهم شربوها - على سبيل التحدّي والمجاهرة بالمعصية. وإنما شربوها على سبيل الضعف البشريَّ أمام الإغواء والانقياد للشهوات.

وعلى الرغم من هذا الحفاظ على الصبغة الدينية في الحكم يبقى الفرق بينهم وبين الراشدين أظهرَ من أن يُنكر. فالراشدون كانوا يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبهم الناس، ويطلبون من الناس أن يحاسبوهم إذا خالفوا حكماً من أحكام الله، والخليفةُ الأموي لم يكن يسمح لأحد بأن يحاسبه أو يراقبه خوفاً من أن تتحول المحاسبة والمراقبة إلى فتنة دامية كفتنة عثمان، وإذا تطاول متطاول أو اعترض معترض كان تطاوله أو اعتراضه خروجاً على القانون، ومخالفة للشرع، ووجب على الخليفة استتابته أو قتله. كما قُتل ابن الزبير سنة 73هـ.

وبين الراشدين والأمويين فرقٌ آخر، وهو أن الراشدين كانوا متفقّهين في الدين، يشرّعون ويقضون بين الناس، ويُصدرون الفتاوى. والأمويّون لم يتصدِّروا مجالس القضاء والإفتاء، ولم يدّعوا أنهم قادرون على التشريع، أي إن الخليفة كان ملِكاً لا إماماً، والدنيا عنده هي الجوهرُ، والدين هو المظهرُ.

وإذا كان الناس قد قنعوا منهم بالمظهر، فإنهم لم يطالبوا الناس بأكثر منه، أي: لم يتشدَّدوا في محاسبة الرعية، فضَّلوا الإرجاءَ على الاقتضاء، أي: فضلوا مذهب الجعد بن درهم الذي يرجئ الحكم على الناس إلى الله، فالله يتولَّى السرائر، ويعاقب على الصغائر والكبائر، ولكنهم في الوقت نفسه حاربوا المذاهب التي وجدوا فيها انحرافاً عن الكتاب والسنة، وجاهدوا في سبيل الله، ونشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. وهذا المسلك خلع على حكمهم صبغة دينية واضحة.

كلُّ ما ذكرناه من حفاظ الخلفاء الأمويين على الصبغة الدينية يبهت ويخفت إذا ذكر عمر بن عبد العزيز [ت: 101هـ]، فقد عدَّه المؤرخون خامسَ الراشدين، وثالثَ العمرين أبي بكر وعمر، ورأوا أن عهده - على قصره - كان غرّة مشرقة في ناصية الأمويين، لأنه أقلع عن الاستبداد وسفك الدماء، وقسم الأموال بالسوية بين الرعية، وأبطل لعن عليّ كرم الله وجهه، وساوى الموالي بالعرب في الحقوق، فهادنه الخوارج، وأثنى عليه الشيعة، وخُيِّل إلى الناس أن ابن الخطاب بُعث من جديد، فاطمأنّوا، وأقلعوا عن الكيد والفتنة، ولم يمتعض من حكمه غير المنتفعين بمن حكموا قبله، ومن تضيق صدورهم بالحق والشرع.

وزعم أصحابُ الأهواء أن حكمه أضعف السلطة الأموية، وأغرى بها أعداءها، واتهموه بأنه خيالي مثاليّ، يحلم بالمدينة الفاضلة، وبأن فكره السياسي، على فضله ونبله، عَجَز عن أن يجابه الفساد. وبالغ بعض المؤرخين في نقده وحمّله التبعة الكبرى في سقوط الدولة الأموية. فما فحوى هذا الادّعاء؟ وما العوامل التي أدَّتْ إلى سقوط الأمويين؟

الصفحات