كتاب " البحث عن لغة " ، تأليف حسين نشوان ، والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب البحث عن لغة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
البحث عن لغة
• اللغة «الموؤودة»
تشكل القصيدة أداةً للبحث في جوهر الوجود، ومختبراً لغوياً للإفصاح عن كينونة الإنسان وهمومه وأمنياته، وغموض الكون وأسراره. وحلماً يعيد اقتراح العالم في صورة جديدة تطمئن الروح.
وتحاول الشاعرة زليخة ابو ريشة في مجموعتها «كلام منحّى» اكتشافَ كينونتها عبر استعادة لغتها المسروقة و«الموؤودة» بسبب انحيازات النحاة، الذين ردّوا أصل كلِّ فعل إلى المذكر. «إذا كان هناك من تحيزٍ، فإنه ربما لا يعود إلى اللغة، بقدر ما يعود إلى الثقافة النحوية التي من المحتمل أن تكون مالت إلى الذكورة» (8).
وكانت القصيدة في وظيفتها الفنية والجمالية ضرورة حياتية بالنسبة للمرأة لإثبات ذاتها من خلال امتلاكها للغة، وهي ملْكية ليست قهرية أو تسلطية، وإنما تصالحية تقوم على تعزيز العلاقة بين اللغة والمرأة اللتين تقعان في دائرة الأنوثة. «النص يعدّ أحد الفضاءات التوليدية والتحويلية للجسد»(9).
على أن الشاعرة زليخة أبو ريشة لا تريد اجتراح لغة جديدة، وإنما تسعى إلى وقف استبداد اللغة التي صنعها النسق الثقافي، وبنيته التقليدية. وتريد أن تعيدَ العلاقة الحميمة بين مفرداتِ الطبيعة والقصيدة بإطلاق طاقة اللغة الاحتياطية (المغيبة) والمسكوت عنها، والمساهمة في إنتاج إبداع ينحاز إلى الحرية والجمال والإنسان، ويقف ضد الظلم والقهر الذي طاول تاريخ المرأة وأقصاها عن الفعل الإبداعي.
«إن طريق المرأة إلى موقع لغوي إبداعي، لن يكون إلاّ عبر المحاولة الواعية نحو تأسيس قيمة إبداعية للأنوثة» (10).
وتقارب الشاعرة بين جوانيات المرأة ومظاهر الطبيعة وفق قراءة معرفيةٍ واعيةٍ للفكر الإنساني الذي كانت المرأة في مراحله التاريخية القديمة تحظى بالقداسة وتسعى إلى استعادة القيم التي تأسست عليها جماليات أنثوية العالم قبل أن يصيبها الخرابُ، وتتميّز عناوين القصائد بحساسية سورياليّة صادمة، تهشّم الواقع، وتترك اثراً منه معلقاً في الفضاء الواسع، أو في الزوايا التي تخنقها الوحدة، وتترك الأشياءَ تتحدثُ عن ذاتها بذاتها، كما الصوفي الذي يتماهى مع الكون ليقول صوته وصمته بلغة جوانية تنطوي على غموضٍ وكشف يصدران عن لغة سرية، أو لغة تحمل أسرارَ معرفةٍ متجليةٍ تطمئن الروح إزاء قلق الوجود ولا يقينيته.
وتقترح الشاعرة عناوينَ القصائد بلغةٍ فانتازية تقع في منطقة الحلم الذي يتراءى بالرمز ويعود في اشارات لغوية تمجّد ثلاثية الحياة:
«حال المثلث يعلو فيه الكلام»، «حال الذي يطفو في الضياء»، «بحر يصطاد موجه»، «فنجان يفيض عن ذاته»، وهي عناوين تنطوي على مغامرات تنفذ إلى أعماق النفس وتجعل من اللغة حاملةً لنوعين متناقضين من الوعي: النمطي، والمعرفي، قابلين لتفجير فكرة التجديد والاختلاف. وتكمن في اجتماع أضلاع المثلث الذي يشكل بؤرة النص وفكرته ودلالات الحياة والثورة والقداسة، كما أنه يدل على القلق والقوة اللذين يتصلان بالنفس الإنسانية وهواجسها.
وتشكل المرأة، والطبيعة والقصيدة مثلثاً متساوي الأضلاع في اختزاله لكينونة الوجود الانساني، وتشابه دورات الحياة في الخصب، والتوالد، والموت، وبالمقدار الذي يعبر فيه المثلث عن الفعل المادي فهو يشير إلى البعد الروحي الذي يجتمع فيه المعنى الكلي للوجود الذي يمنح الحياة حركتها وسكونها وطعمها ولونها، ويفيض على الأشياء لغتها واكتمالها وتواصلها في الكلام.
وقد قاربت الشاعرة من خلال هندسة الطبيعة صورة العلاقة بين المرأة واللغة؛ لإعادة واقع العلاقة المتكافئة بين الذكورة والأنوثة. «التي تضع الشخصية الأنثوية في مواجهة الأشياء، ومواجهة العالم، ومواجهة شريكها الرجل في علاقة حميمة تلخّص وعيَها في الحياة» (11).
ومن المهم القول، إن اللغة – ككائن حيّ- لا تعبر عن الوجود فحسب، وإنما هي الوجود ذاته، كما يقول الفارابي: (اللغة مثوى الوجود)، وإن هذا الوجود لا يمكن أن يتحقق إلاّ مجسداً؛ فالمكان والإنسان والأشياء يتم التعرف إليها حسياً، لتتحول بعد ذلك من لغة الجسد إلى جسدِ اللغة بصفاتِ الطبيعة التي تقترحها، وتمنح الإنسان وضوحه، وتفيض عليه بالمعاني:
«هي ذي عتبة البيت
مفتتح الكلام
...
...
...
المثلث غضبان
مدّ يديك اتضح
وخذْ حليبَ عروقي ودوّر كلامي إليك
...
أقول له،
هذا عصيرٌ التقى والفجور
...
المثلثُ ملآن
إليك الملاذ الذي إليه
يكون الملاذُ» (ص 25).