أنت هنا

قراءة كتاب البحث عن لغة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
البحث عن لغة

البحث عن لغة

كتاب " البحث عن لغة " ، تأليف حسين نشوان ، والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

•    الطبيعة واللغة
بين الطبيعة واللغة تشابهٌ كبيرٌ يصل حدَّ التماهي؛ فاللغة هي استعارة لأصوات الطبيعة وحركتها وسكونها ومزاجها، ولا يتوقف هذا التشابه عند التمثلات المباشرة، وإنما يذهب إلى الدلالات والرموز والإشارات التي تستعير من الطبيعة فكرة الخصب والتوالد والمخاض والخلود والسكون والحركة، فالكلام ليس مجرد ألفاظ متجاورة، وإنما هو أفكارٌ متوالدة تسبقها حالةٌ من المخاض، المعاناة التي تولد المفردات وتستنبتها في أرضٍ خصبة وفضاء رحبٍ، قابلٍ للحركة والخلود.
ومع التقارب بين صفتي الطبيعة واللغة (الأنثوية) فإن الكثيرَ من المفردات العربية تعود في جذورها إلى الطبيعة الحسية وصفاتها وجمالها، مثل: الكلمة، القصيدة، الحكمة، الشفقة، الحياة، الوردة، الزهرة، الحرية، السماء، الغيمة، الأغنية، الجنة، الحمولة، العشيرة، الرحمة،..، وتحاول الشاعرةُ استعادة التواصل مع الطبيعة من خلال استعارة مفرداتها لتوحيد الدال والمدلول في المعنى واللفظ، والصورة، التي تشكل مثلثاً متطابقاً بين صور المرأة الطبيعة، واللغة، وتعبّر عن نفسها بمتخيلات متنوعة عبر اللغة الصوفية، واللوحة السوريالية، والمفردة الأسطورية.

•    الصوفية
تقوم الصوفية على حسٍ روحاني يمجد الطبيعةَ؛ لإيمانه أنها مُعلّمُهُ الأول، يختلي بها متأملاً لتحقيق طمأنينة الروح، فهي سبيله للمعرفة والحقيقة والحرية، ووسيلته لإطفاء نزعة الشر من خلال المكان الذي يقول عنه ابن عربي: «كل مكان لا يؤنّث لا يعوّل عليه».
وهي فلسفة تسعى إلى الاندماج مع المكان (الطبيعة)؛ كفضاء للوحدة الكونية التي يرى الصوفي أنه جزء منها، وهي جزء منه. ولأن الصوفية هي تجربة ذاتية؛ فإن مفرداتها تظل أقرب إلى الأسرار الذاتية التي تهيم في برزخ بين الروح والجسد، واليقين واللايقين، والغموض والانكشاف، وهذا الهيام هو الذي يحقق الطمأنينة الروحية التي تغسل أدران القلق الذي يعيشه الإنسان في هذا العالم بعد أن يكشف أسراره وجوهره، ويغرق في فتنته وضوئه الكوني؛ فالشاعرةُ تحوّل الأشياء إلى لغةٍ مموهةٍ، رمزيةٍ، تخالف السائدَ، تشي بالوجود ولا تحدده، وتسعى إليه، لتثري ذاتها التي تثري ذات الآخر كما يقول ابن عربي: «الأنثى هي الآخر الذي يعرفنا بذواتنا، ونعي ذواتنا المختبئة عنا من خلاله؛ فالمرأة والمرآة والرؤية والرؤيا تصدر عن جذر واحد يعكس وجودنا».
«انسحرت ولم أعِ الوقتَ
ولم أكُ أسمّيه
ولم أحدده يوماً ليبقى
لأني علمتُ تماماً
بأن رحيلَ التفاصيلِ
ضوْء يشحّ.. ويغسلُ وهمَ التفاصيل
.........
من شواطئها أفضي إليها
ولعلي لا أفضي إلاّ إلى رحلتي
وقيام النهار تائباً
أن يلقي على جبهتي
تعبه» (ص13).

•    السوريالية
إنَّ ما يميّز السوريالية هو الحلم وغموضه ورمزيته، وأحيانا غلالة الحزن التي تلفه؛ فالسوريالية تستمد صورها من اللاشعور، والعقل الباطن، تمنح الأشياء مشاعر الإنسان وهواجسه، وتعيد صورته في مظاهر الطبيعة وحالاتها؛ لتكون اللغة تعبيراً رمزياً عن التصادم بين الوعي واللاوعي، والمرئي واللامرئي، كتعبير عن المأزق الذي وصل إليه الإنسان نتيجة القهر والتسلّط، إذْ خلقت معاناته ومأساته ووحدته الوجودية، فهي لا تعيد إنتاج العالم، وإنما أيضا تعيد توصيف العلاقة بين الأشياء التي تتمارى في الواقع من خلال الحلم الممزق، والصور التي تستعيدها في اللاشعور التي تجعل من اللغة أشبه بلوحات «سلفادور دالي» التي تصور حطام الطبيعة في فضاء مليء بالجمال المتخيل، وإذا كانت اللغةُ الصوفية تنهل صورها من الفلسفة (العقل)، فإن السوريالية تستعير لوحاتها من الخيال (الفن، الشعر)؛ لتحطيم الأطر المألوفة التي تفتّتُ ذاكرةَ الإنسانِ، وتعيدها بشكلٍ طازجٍ يغمرُ الوجود بالحلم:
«كنت أنحني على الجمعة
أبحث في صرتها عن ذكرٍ واحدٍ
لم يكُ من قبلُ
وما مرّ في الحواس التي تسمّرت على الشجر المنحني
كنت أغمض عيني.. استأنسُ بالظل داخل جفني
أستحمُّ بقول تدفق من قلة الفودكا
وفاضَ وأغرقَ غابات حلمي
ونحّى كلامي» (ص35).
 

•    الأسطورة
إن الأسطورة من أكثر أشكال التعبير اتصالاً بالطبيعة إزاء الأحداث والظواهر الغيبية والكوابيس التي تتهدد الروح؛ فهي نسقٌ معرفي يسعى إلى تحقيق حالةٍ من التوازن بين الإنسان ومظاهر الكون، وخصوصاً التي لم يستطع تفسيرها أو السيطرة عليها، ويمتزج في الأسطورة الحلم والمنطق والمشاعر والسحر والخرافة.
 وكما يقول «رولان بارت»: فهي «نوعٌ من الكلام الذي يتصل بالدال والمدلول والعلامة، ينتقل من الواقع إلى المعنى الكامن في الحلم، وهي نظامٌ مزدوجٌ يحدث فيه نوعٌ من كلية الوجود الذي تجتمع فيه الفكرة ومعناها وصورتها» (12).
وهي بالميزة هذه، فقد أشبعت اللغة بالمعنى الكلي الذي يتضمن الحلمَ والواقعَ، وقللت الفروق بين صورة الطبيعة وملامح الكائن ضمن مفرداتٍ تنطوي على البوح الذي يمثُل داخل الإنسان بما تعلنه الطبيعة ببساطة، وبما تتشكل عليه الطبيعة من تعددٍ وتنوعٍ واختلافٍ يتشابه مع جسدِ المرأة وجغرافيته. وكما يقول الناقد صبحي حديدي في ترجمته لكتاب «الأسطورة والمعنى» لكلود ستراوش: «إن الأسطورة لا تُقرأ سطراً بعد سطر، أو من اليمين إلى اليسار، وإنما تدرَك بكلياتها كما الموسيقى، وهو مثال يمكن أن يقرب دوافع ذهاب المرأة إلى الأسطورة، كمبررات استعادية للذاكرة، والتماهي مع الطبيعة في كلياتها»:
«هنا التموز خالعاً إزاره
وبعض ما يقول الحجر المسود من تبجح العلى
.........
تمشي التلالُ نحو فهرس التلال
كي تقرأ الأوصاف.. كي تكونها
لكن ما يشوقني في لحظةٍ الشمس هذه
لحظة الخريف عارياً في ثوبه القديم
لكن ما يشوقني في لحظة الجدوى
ولحظة التزامن الطرية
وجهُ من أحب
فقط» (ص52).

الصفحات