كتاب " ملاك الحقيقة " ، تأليف ضحى الرفاعي .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب ملاك الحقيقة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ملاك الحقيقة
2
صديقي الأول
معظم الناس يرددون كلمة الحب الأول، لكن من يستطيع تذكر الصديق الأول والذي لايزال صديقه الأوحد، لم يخسره ولن يخسره، يفخر به ويحبه، لايتذكره فهو لا يغيب عن باله أبدًا
لكن علِّي يختلف، فهو لا يحدثني ويعاملني كالكبار فقط، بل ويخبرني بكل تفاصيل حياته، حتى أنني أعرف شكل بيته - فهو يقضي
يومه هنا، لكن في الإجازات يعود الى بيته،
أعرف شكل غرفته وأعرف أصدقاءه بالوصف، وأعرف باختصار كل أسراره، حتى علاقاته لقد أحب فتاة في الجامعة، لكنها لم تقبل أن يعمل في هذه العصفورية، وهو أيضًا لم يكن يحب أن يأتي إلى هنا، فوالده كان يحضر إبنته الصغرى دائمًا إلى هنا عندما كانت صغيرة، لكن علي لم يأتي المكان أبدًا قبل أن يقرر العمل هنا.
لكن مع أن علِّي لم يكن يحب العصفورية إلا أنه أحب والده كثيرًا، ويحب أن يُريحه بعمله قربه، فقد أصابه مرضٌ لم يظن الأطباء أنه سوف يعيش بسببه لكنه قاومه حتى الآن. علِّي لم يقبل العمل بعيد عنه وهو في بداية المرض، أنا لم أصدّق الأمر بالبداية، لكنه فعلًا اختار العمل في مكان يكرهه مع والده على البقاء قرب من يُحب، فهجرها مع أنها كانت حُب حياته فكان حزينًا جدًا في أول عام له هنا.
صحيح أنني أحب قراءة لغة الجسد والتجسس أحيانًا، لكنه يمتلك وجه المقامر، ذاك الذي لا يظهر على وجوههم أي علامات للفرح أو الحزن إن أرادوا إخفاء ذلك. وعلِّي لم تظهر عليه أيٌ من تلك العلامات أبدًا حتى جاءت تلك الليلة.
أتى إلى غرفتي وأخبرني أنه مناوب تلك الليلة، انتظرت
ساعة دون أن أنام، فالنوم تجربة لا أحب خوضها أبدًا، تسللت إلى غرفته وصرت أراقبه كان يجلس قرب النافذة، يحمِلُ كتابًا ويحاول أن يقرأه، لكن النظر إلى السماءيشتته، ولن تصدقواكان يبكي! لم أستطيع تركه تلك الليلة دون أن أعرف قصة الشاب الجديد، فأنا كما قلت لكم فضولية، وأنا أعترف بهذه الصفات، فهي صفاتي! تطلعتُ إلى نفسي وسألتُها: ما هي نقاط قوتك سالي؟
قلت: أني قوية وجريئة وفضولية، لكن هذا الموقف لا يتطلب هذه الأمور، ابحثي عن نقاط قوة أخرى.
فأجبت نفسي وقلت:أنا فتاة صغيرة في العاشرة من عمري تقريبًا ، أسير على كُرسي متحرك، جميلة بشعر أسود كالليل وعيون سوداء حالكة، وجه صافي، أمتلك براءة الأطفال، وأستطيع البكاء حتى وأنا غير حزينة.
-"هذه هي". صففت شعري تظاهرة بالحزن وقرصت وجنتاي حتى احمرتا، وطرقت الباب، نظرت إلى الأرض، لأعطيه فرصة التنبه لوجودي ومسح تلك الدموع دون أن أحرجه، رأيت هذا يحدث من بين خصلات شعري التي إنسابت على وجهي، تغير على الفور أخذ نفسًا عميقًا ونظر بعيدًا عني للحظة ثم نظر إليّ فلم أُصَدِق، كان يبتسم ويضحك من أعماق قلبه، لم أصدق عيناي! حتى بياض عينيه كان ناصعًا، لم يكن قد احمر من شدة البكاء كما يجب ان اكون.
لكني تمالكت نفسي ونظرت له بعيون دامعة، فشرد قليلا ثم سألني: "ما بك يا ملاك؟ أنت لم تنامي! لِمَ؟ ظننت أنك قد أرهقتِ من شدة اللعب والهروب من طبيبتك المخيفة". لكنه نظر يمينا ويسارًا وعاد وقال: لا تخبريها أنني قلت ذلك، ستناقشني حتى الصباح، لماذا تراني مخيفة؟ قال جملته الأخيرة مقلدا صوتها بشكل متقن، لم أتمالك نفسي، فأفلتت مني ضحكة لم تفُته فقال لي وهو يعرف: "أظن أنك تشاطرينني الرأي؟ إذًا لن أخاف على سري، فهو سرٌ مشترك".
قال ذلك ثم دنا مني وحملني، سار بي وأجلسني على الكرسي الهزاز، الذي كان يجلس عليه قبل أن أقتحم عزلته، وجلس هو على السرير المجاور، ونظر إلي بعد أن انحنى لتصير عينيه في نفس مستوى عيني، وسألني عن سبب قدومي وسبب بكائي، بل قال أن عينيّ تصبح أجمل وأنا ابكي، هذا مختلف كانت طبيبتي تهزئ بي كلما بكيت، وتقول لي: "إن الصغار الضعاف هم فقط من يبكون، فجعلتني أمتنع عن البكاء حتى في أشد الأوقات، لكني منذ ذلك اليوم أحببت البكاء، وصرت أبكي كلما رغبت بذلك، لا أقصد أنني أمارس البكاء كما أمارس باقي هواياتي، بل ما قصدته أنني لم أعد أكبت البكاء في داخلي، وقد أراحني هذا في كثير من الأحيان".
ومع ذلك غير هذه المرة التي تظاهرت بها أني أبكي لا
أذكر أنني بكيت كثيرًا وبالأخص أمام أحدٍ، ربما يراني الجميع ضعيفة احتاج من ينقلني من مكان الى اخر وارتجف واصرخ عندما ....
البكاء يزيح الهموم عن النفس لكن أبدًا لن أجعل الشفقة هي سبب تقرب الناس مني، ألا يكفي الكرسي و….
المهم أنني في ذلك اليوم شكوت له حالي، وهذا الجحيم الذي أعيشه مع هذه الطبيبة المتوحشة، وهذا المكان الذي لا أحد يلعب معي فيه، فقد كان في ذلك الوقت اللعب هو أهم إحتياجاتي التي لم تستطع هذه الطبيبة مشاركتي بها، ولا منعي عنها، كان كل اهتمامها منصبًا على العلاج السخيف بالتنويم المغناطيسي، والذي لم تكن تتقنه، "انظري لقلادتي" فتظل تحركها كبندول الساعة التي خلفها، لكن حركة البندول أكثر إتزانا، فأنظر له أكثر، وبالنهاية تقول لي آمرة: "ارفعي يدك، أنزلي يدك"وتلقي الأوامر السخيفة، حتى تأتي على ذكر تلك الأسئلة التي أخافها، هي تقترب من الخط الأحمر، وتبدأ تسألني عن أحلامي، وهذا ما لا أرغب بالحديث عنه، فأرفض الخوض في هذا الحديث، فتظن أنني استيقظت من التنويم المغناطيسي لسبب ما وتقول:سنعيد التجربة غدًا، قلت له
أنني أستمتع باللعب معها هذه اللعبة، لأنها فقط في هذه الأوقات تكون هادئة ولا تصرخ في وجهي لأي شيء أقوم به، فتظل تتحدث وكأنها تزور مريضًا ينازع الموت.
أما علِّي فلم يكف عن الضحك طوال سردي لقصصي عنها حتى أغاظني، فسألت بأعلى صوتي، وقبل أن أعرف كيف قلت ذلك: "كيف تضحك و...؟ فصمتت، ونظر لي فعرفت أنني يجب أن أكمل السؤال فهو لن يطردني خارج الغرفة وأنا لا أستطيع السير أصلًا، فتابعت بصوتٍ منخفضٍ جدًا: لقد كنت تبكي منذ لحظات كيف تستطيع أن تضحك الآن؟" لكني توقفت قليلا، فنَظرَتُهُ لي أصبحت مُخيفة، بل وقف ونظر إلي متجهما ساعات وساعات أو ربما هكذا ظننت، ثم أيد ما كانت تصفني به طبيبتي وأمرني بعدم التدخل فيما لا يعنيني.
اقترب مني، وهو بالكاد ينظر لي، وحملني ليضعني ليس على الكُرسي بل في غرفتي وعلى سريري، ثم خرج دون أن يقول كلمة، تم عاد وهو يجرّ الكرسي وينظر له دون أن يرفع عينيه، كنت أبكي بحرارة، لكني توقفت عندما عاد، فإن كان يحب عيناي وهم دامعتان فلن أدعهُ يراهما، لكنه ظل واقفا عند الباب ولم يتحرك، نظر لي طويلًا فبادلته النظر بثقة حتى ذهب دون أن ينطق بأي كلمة.
كنت أعرف أنه كان سيقول شيء، لكنه ذهب! لم أفهمه بل وبقيت طوال الليل أفكر دون ان أصل لشيء، كان في داخلي مئة مئة سؤال، فقررت أن أسأل الشخص الوحيد الذي يتحدث معي في هذا المكان وهو تلك الطبيبة، ويا ليتني لم أفعل.
-" هل الرجال يبكون؟" كان سؤالًا عاديًا، لكنها أجابتني بصوتها البارد المتعالي: "فقط الأطفال الضعفاء يبكون".
لكن هل الرجال ضعفاء؟"حاولت تتصنع أفضل حالات الجدية كي لا تستهزء بي لكنها قالتها بتهكم واضح: "الرجال دائما أقوياء، فقط الأطفال يبكون".
-"هل الرجال أطفال؟"لكنها أجابتني بصوت عالي ودهشة واضحة
-"كيف يكون الرجل طفلا؟" باسغراب شديد.
-"أنت أغبى مخلوق وقعت عليه عيناي!". وبعد هذه الحادثة أضيف إلى ملفي لقب"الغبية"، لكني لم أهتم لذلك فقد كنت سعيدة، فبالصباح بعد أن تركتني جاء علِّي لزيارتي وأحضر لي دمية من الصوف ترتدي قبعة بيضاء جميلة وثوب أحمر، وجلس دون أن يقول شيئًا سوى النظر، أخذتُ الدُمية واعتذرتُ على تطفلي عليه بالليلةِ الماضية،
لكنهُ ظَل كلاعب البوكر " المقامر" لا
تظهر تعابيرُ على وجهه ينظر إلّي، حتى بدأ يتحدث وقال لي كل شيء عن تلك الفتاة كم أحبها وكيف كانت حب حياته، وكيف أنه تعيس في هذا المشفى، وقد اختصر حياته بين المشفى والبيت، لا يتنزه إلا نادرا، لكن عدا تلك الفتاة كانت أسبابه سخيفة، وقلت له ذلك، فأنا لا أخرج أصلا من هنا، وليس لي أصدقاء، ولا أتحدث لأحد، ولا يوجد شيء أفعله سوى هذا التلفاز والذي لا يسمح لي بفتحه إلا نادرا، ولم أحب أيضا في حياتي، ولم أكن أعرف ماذا حصل لكنه بدأ يضحك ويضحك وقال لي: "أنت صغيرة والحياة أمامك ستشفين وتخرجين وتحبين"، لكن هذا لم يحدث حتى الآن، فلا زلتُ هنا بعد قرابة العشر سنوات من تلك الحادثة، ما تغير أنني صرتُ أعرفُ كل شيء عن العالم الخارجي، فقد كان علي نافذتي على العالم، وأصبح يعلمني القراءة والكتابة باللغات الثلاث التي يعرفها«العربي والفرنسي والإنجليزي»، باختصار أصبح لي الصديق الذي أشتاق له عندما يغيب وأتلهف لرؤيته، وساعدني لإقناع المدير بخروجي في أيام الآحاد خارج المشفى، صحيح أننا لم نغادر الريف، لكنني بدأت أخرج وبدأت أحب الريف والطيور والأشجار والحيوانات وصديقي الجديد أو الأول.