كتاب " ملاك الحقيقة " ، تأليف ضحى الرفاعي .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب ملاك الحقيقة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ملاك الحقيقة
4
طبيبة مختلفة
عندما يحاول الإنسان أن يغير نفسه
تقف في وجهه المعتقدات القديمة
والتي كان يراها قيم
لتعاتبه كيف يهمل أجمل قيمك ويبدلها بأخرى
"غيرتَ قناعاتِكَ وقِيَمك؟"
يحتقر هذا الإنسان نفسه ويعود لسابق عهده
ليحافظ على معتقداته وقيمه الراسخة.
لكن الكارثة إن كانت هذه القيمة هي عادةٌ سيئة تتخفى في ثياب القيم
أحضر لي علِّي تلك الليلة فيلمًا رومانسيًا، قال إنه مشهور جدًا، وقال أنني يجب أن أغيِّر نوع الأفلام التي أشاهدها، فأفلام الإثارة القديمة تزيد من أحلامي السيئة كما قال! لكنه لم يشاهده معي كما اعتاد أن يفعل، وتذرع باجتماع يجب أن يحضره، لكنني لم أصدق، فهو عادةًا إن كان مشغول كان يمنعني من مشاهدة الأفلام دون، وسمي هذا الفعل بالخيانة.
لكنه اليوم جعلني أشاهده وانصرف، لكن الفيلم كان جميل جدًا فنسيت أنني أشاهده بمفردي، وتابعته وبكيتُ كثيرًاعند نهايته، ولم ألحظ علِّي وهو يقف قرب الباب ينظر لي تلك النظرة الخبيثة، فتعجبت لأمره وسألته وأنا أمسح دموعي: "هل انتهى الإجتماع؟" لكنه أجابني بلا مبالاه أن الاجتماع لم يكن مهمًا، لم يعجبني رده فتسائلت: "إذًا لماذا ذهبت إليه؟"
فخرج وأمسك مقبض الباب وأغلق نصفه فلم يظهر إلا رأسه وقال: "حتى أراكِ وأنت أجمل"، ثم أغلق الباب، أغاظني، أرادني أن أبكي، لكنه فيلمٌ حزينٌ فعلًا، مضت تلك الليلة بسلام، بعد كل تلك أمسية الهادئة لم أرى أي كابوس.
استيقظت على صوت الباب وهو يفتح، كانت د.سوزان، في العادة يدخل علِّي أو الممرض المسؤول عني بالصباح، وبالعادة أيضًا أُشاهد الفيلم مع علِّي فيأخُذه معه، ويغادر بعد أن يخفي كل أدوات الجريمة-أي السهرة- من بوشار وفول سوداني والفيلم نفسه، صحيح أنه كما قال علِّي بالفيلم العاطفي لا متعة لطعام فيه فلم يحضر شيء، لكن الفيلم كان لا يزال في جهاز التسجيل، وكان هو أول ما وقع علِّيه نظر سوزان فأخرجته، وصرختُ فعرفتُ أنني في ورطة لكنها قالت: "أرجوك أعيريني اياه، كان هذا آخر فيلم شاهدته بالسينما مع زوجي قبل وفاته.
شعرت بالحزن، هي أيضا مات لها عزيز، سألتها: "منذ متى حدث ذلك؟"
-"منذ أكثر من ستة سنوات"، تذكرت والدتي، كم أشتاق لها، صحيح أن والدي يزورني في نفس تلك المواعيد التي كانت تزورني بها، لكنه استبدل أول يوم بالشهر بأول يوم عطلة بالشهر، فهو كثير الأشغال، قال لي في آخر زيارة أن قريبة والدتي جاءت لزيارته، وأن أقاربنا قد رشحوها ليتزوجها، أعرف أن هذا يبدو غريبًا، لكن لأهل البلد تصرفات راسخة، كانت أمي تخبرني عنها، مثل أن الرجل الأعزب يجب أن يتزوج بسرعة، هذا لا شيء مقابل أن الرجل الذي لا تنجب زوجته يتزوج بأخرى، وإن أنجبت له زوجته أنثى يظلون يطلبون منه الزواج لإنجاب الذكر، لكن والدي لم يفعل ذلك، كانت أمي تقول لي أنني كنت أجمل ما أنعم الله عليهما، لكنها عندما بدأت تمرض أخبرتني أنها ستموت، جعلتني أتمنى لها ذلك لترتاح من آلامها، كنتُ أَبكي كلما غادرت فأنا لم أكن أعرف هل سأراها مرة أُخرى؟ وفي آخر زيارة طلبت أن أساعد أبي باختيار زوجة صالحة له، أنا لم أُرِد ذلك لكنها أجبرتني أن أعدها ثم...ثم ماتت وأنا أجالسها بالحديقة، ماتت بين يدي.
أجابتني الطبيبة وقد انتبهت لشرودي: يبدو أنك قد حلّقتِ بعيدًا، المهم لقد افتقدته طبعًا، لكن هذه هي الحياة، وأبي الآن يرغب بأن أتزوج ليرى أحفاده قبل أن يموت.« نعم إنها إحدى أفكار أهل البلد» حدثت نفسي بهذا.
ثم تابعت، "هو لا يملك غيري، فقد توفيت زوجته الأولى وهي تلد طفلتها فتزوج والدتي وأنجبني منها".
قلت: "إذن لكِ أخت؟"
قالت: لا لقد توفيت هي أيضًا بعد أسابيع من ولادتها". ثم نظرت إليّ نظرة جادة كمن يريد تغيير الموضوع، فهمت أنها تريد الحديث عن مرضي.
سألتني: "والآن جاء دورك لتقولي لي كل ما ترغبين عن نفسك". فتذكرت حنقي عليها وحديث علِّي عنها بالأمس، فرددت علّيها ببرود وصوت عالٍ: "لقد قرأت ملفي واستجوبتِ كل من هو قريبٌ مني".
فردت علِّي بمرح كرهته: "نعم، لكن كان هنالك شيء غريب لاحظته".
-"نعم فأنا شخص غريب، قالت لي مرة إحدى الطبيبات أنني أشبه أطفال المريخ، وأنها تتعجب لِمَ لم يقوموا بإجراء بعض التجارب عليّ ليعرفوا كيف يفكر الفضائيون!".
قالت: "أنت تمزحين". ردت علي بجدية وبدأت تكتب في دفتر ملاحظات صغير أخرجته من حقيبة صغيرة لم أكن قد رأيتها قبل ذلك، فزاد غضبي.
-"ماذا؟ هل أطلقت علي اسم الحالة رقم واحد؟ أم قررتِ اللقب المناسب بهذه السرعة؟"
كان الجميع يبدأ هكذا، كنت المريض رقم سبعة، المريضة المدللة والمشاكسة والمريضة الكابوس"، كنت متأكدة أنها ستبدأ هكذا.
مدت يدها وعرضت عليّ قراءة المفكرة الخاصة بها، لم أكن أتوقع ذلك، فبعضهم كان يتعجب قدرتي على القراءة والكتابة، أخذت المفكرة وفتحت الصفحة الأولى وكانت مبدوءة هكذا:
-"اليوم الأول"
المدير يقوم بعمله على أكمل وجه. هكذا ظهر
الأطباء يعملون لكن لا يعيشون.
الممرضون يعملون ويظنون أن الحياة تكون هكذا!
استثناء من الممرضين الذين قابلتهم "هناك شاب ممرض يعمل ويعيش ويبذل كل جهد ليشفي ملاكه".
مريضتي تُدعى سالي رقيقة وحساسة منطوية
أشترك معها بحب الغروب
و أختلف معها بأشياء أخرى فهي تفقد الأمل وأنا أرى أن الأمل لا يموت
"وهو ترياق الخلود"
الصفحة الثانية
-"اليوم الثاني" سأقابل سالي بالبداية
بعد القليل من الأسئلة من قِبلي بدأت تصرخ وتملي الأوامر،
ربما تريد أن تبدأ العداء من قِبَلِها كوسيلة دفاع.
حيرتني هذه الطبيبة فهي لم تعطني أي لقب أكرهه بل لم تناديني بالألقاب المعتادة، بل نادتني باسمي أكثر من مرة، بل وذكرت أنني أدافع عن نفسي بالصراخ
فسألتها ببعض اللين: "ما هي وسيلة الدفاع تلك؟ ربما كان يجب أن تقولي هجوم لا دفاع".
قالت: "لا، أنت أكيد لا تشاهدين مباريات كرة القدم"، فهززت رأسي نافية وأخبرتها: "فأنا لم يسمح لي إلا بمشاهدة أفلام الأطفال".
-"أنا أيضا لا أحب كرة القدم، أحب التنس، ما رأيك بها؟ المهم سأجيب على سؤالك، يقول مذيع كرة القدم أن أفضل ووسيلة للدفاع عن المرمى هي الهجوم بعيدًا عنها، وأنتِ هاجمتني منذ البداية، وأظن أن السبب مجموعة الأطباء الذين مروا عليك قبلي، وأظن أنك لم تحبي أيًا منهم، واعذريني إن قلت أنهم أيضا لم يُحِبوك، مع أنك تبدين رقيقة ومهذبة".
-"أنا مهذبة؟" كنت في أشد حالات الاستهجان، كانت تجاملني، لكنها ليست مضطرة لذلك! ليتني أعرف حقيقتها، ليتني أعرف هل هذا قناع ترتديه أم فعلًا هي هكذا.. ليتني أعرف!
قالت: "نعم أنت مهذبة، فلو كنتِ كما كُتِبَ في ملفك الخاص، لما مددت يدك وصافحتني، ستقولين إنني قد أحرجتك، لا فلو لم تكوني كما وصفتك فلن أستطيع إحراجك، ولوجدت أن إحراجي أنا بعدم تلقي يدك لتصافحني شيءٌ مسلي، ثم لم يكن هذا هو الشيءُ الوحيد في ملفك الذي لفت نظري ووجدته غير منطقي، فقد قرأته بتمعن، هناك طبيبة جاءتك عندما كانت بالعاشرة من عمرك، قبل حضورها لم يذكر شيء من سوء طبائعك، لكن بعد أن غادرت هذه الطبيبة، أصبح الجميع يكرر نفس الملاحظات والتي تَصب في نفس اتجاه ملاحظات تلك الطبيبة، فهم قرأوا الملف واستوعبوه قبل أن يشاهدونك، فكنت تقابلينهم وأنت مصممه على ألا يرونك كما هو مكتوب بالملف، لكنهم لم يكونوا مستعدين أن لذلك، وأصروا على تلك الصورة التي رُسِمَتْ في مُخيلتهم عنك، وعندما كتبت في مفكرتي أنك بدأت تفقدين الأمل، أنك قد قررت أن تصبحي مِثلما يريدون الفتاة المشاكسة غير المطيعة العنيدة، لكنك مع كل هذا التصنع استطعت أن تجدي البعض يرى فيك الفتاة الذكية والمطيعة والمرحة الفتاة الملاك"، فهمت أنها تقصد علِّي، تابعت دون انقطاع، "لكنك وبالرغم من وجودك هنا منذ أكثر من خمسة عشر عام في مكان يجلس به الناس للعلاج النفسي بينما أنتِ فقط تجلسين للإستجمام، لم تتحسني، نعم لا تنظري لي هكذا فأنت هنا فقط لأن والدك لديه المال الكافي ليجعلك مرتاحة من أحلامك، ووالدتك تمتلك قلبا عطوفا حساسا يجعلها لا تتحمل أن تراك بعد كل كابوس ذابلة متعبة، فأحضـروك إلى هنا، ولم تكِّوني صداقات، وما أتبناه من صفاتك في الملف أنك فتاةٌ انطوائية تحب العزلة وتخشى الاحتكاك بالمجتمع".
انطوائية! ربما هذا صحيح لِمَ لا؟ لِمَ لا أكون انطوائية ؟وليس لدي أي شخص قريب بالسن يقطن قربي وأجعلهُ صديقي، هل يوجد فتاة على هذه الارض أمضت طفولتها ووصلت سن التاسـعة عشـر دون أن تملك أي صديقة؟ لتشاركها أفكارها وأحلامها وألعابها، لم يكن لي هذه الصديقة يومًا، ومع هذا لم أيأس بل وقبلت بعلي بكل صدر رحب كي يكون صديقي وصديقتي، وأمي أيضًا كانت لي الصديقة القريبة.
حاول الكثير من المرضى التقرب مني لكني كنت أنفر منهم، بعضهم ذوو وجوه مخيفة والبعض الآخر أصواتهم حادة، ومن كان منظره طبيعي كنت أرى أقبح النظرات في عيونهم، كنت أرى الشفقة، وأنا لا أطيقها، بل هي أسوء ما تعرضت له، هذا هو ما جعلني أبتعد عن الجميع، فسكانُ المكانِ جميعُهُم لا يُشبِهونني، أريد من يشبهني، لا أريد من يتقرب لي حُزنًا على حالي، بل أريد من يتقرب لي لأنني سالي، لا لأنني عاجزة، فأنا لستُ بحاجة إلى أصدقاء كهؤلاء، لا فهذا اللقب لن يناسبهم أبدًا بل هم مشفقون لا أكثر.
أما بالنسبة لمرضي إنها لم تفهم بعد، فهي لم ترني بعد الكوابيس كيف أكون، قررتُ أنها يجب أن تعرف حتى لا تعود لتقول إنه مجرد دلالٌ من والداي.
تابعت قائلة: "سوف أذهب الآن لأتركك تتنزهين في الحديقة، فقد أخبرني علِّي"صديقك الوحيد" أنك تتنزهين عدة ساعات تقرئين بها إحدى الروايات".
وغادرت الغرفة بمرح طفلة، لم يلبث أن دخل علِّي بعد خروجها مترقب، لم يقل شيئا ظل ينظر وينتظر أن أتكلم، لكنني لا زلت منزعجة منه بعد ما فعله بي تلك الليلة، ومنها لما قالته عن حالتي، حافظت على صمتي حتى يئس وبادر بالسؤال: "ها؟ ماذا حصل؟ قولي"، لكني ظللت صامتة، أردت أن أفكر وأعذبه أيضًا، لكني لم أكن أنوي أن أماطل كثيرًا ليس قبل قبض الثمن، فمن عادته أن يغريني ببعض الأمور ليعرف ما يريد مني وأنا أيضًا أمارس هذا الابتزاز إن استطعت، فقطعت الصمت وقلت له ببرود: "ألن نذهب إلى الحديقة، لقد تأخرتُ وأنا أريد أن أنهي تلك الرواية" كنت قد بدأت بقراءة رواية جديدة، لكنني لم أكن مستعجلة لأنهيها فقد كانت جميلة، ولست متأكدة أنني بعد إنهائها سأقرأ ما هو بجمالها.
حملني عن سريري ليجلسني على مقعدي المتحرك، فشممت عطره، كم هو جميل، أجعله دائما يشتري علبتين كلما اشترى واحدة، وأرسلها إلى والدي، وقد ذكرها في رسائله وقال أن ذوقي ممتاز، لكن أن يضع علِّي هذا العطر اليوم وغدًا عطلة يعني أنه سيسافر إلى باريس بعد الظهر، أي أنني لن أسهر على فيلم، ولن أبقى معه باقي النهار ولن نرى الغروب، لكن مع هذا أنا لم أكن أكره هذه الزيارات لباريس، فهو يحب أن يذهب ليرى والدته وأخته وأصدقاءه ويحضر الكتب التي أقرأها والأفلام التي أشاهدها، وأهم ما يحضره معه هو قصصه عن العالم بالخارج وبالأخص مع صديقاته، نعم أكاد أعرف أدق التفاصيل عن كلٍ منهُن، حتى أنني إن رأيتُ إحداهُن سأَعرِفُها.
وضعني على الكرسي وسار بي إلى الحديقة، وهي أجمل حدائق العالم، أجلس دائمًا تحت شجرة سروٍ عالية، ربما يبلغ عُمرها عمر هذه المشفى الذي يتجاوزعمره القرن ،وهي محاطة بحلقة من الأشجار بالعمر ذاته تقريبًا.
عندما أصل إلى مركز هذه الحلقة أجلس تحت الشجرة الأم (كما أسميتها) فينتابُني احساس جميل وكأني صرتُ بالغابة، نعم فالمشفى تختفي جدرانه ولا يظهر منه شيءٌ على الاطلاق، فلا أرى شيئًا يذكرني بالبشـرية سوى هذا الكرسي القديم، قِدَم الشجرة، بل ربما غرسا معًا في هذه الأرض، والعصافير التي اطمأنت لهذه الشجرة وبناتها بنت أعشاشها وعاشت هانئة، تزقزق ولا تهدأ، لكني أفضل هذه الضوضاء فهي رائعة ، هي ليست ضوضاء، بل بنظري هي زقزقة عصافير بريئة رائعة اختفائها يعني الموت؛ فمثل هذا السرب من الطيور لن يغادر إلا بموت هذه الشجرة، ولن أرغب بالحياة عند تلك اللحظة، لن أقبل المَكان دون الأُم وسِربها الشادي، لكني حتى هذه الحظة أستمتع بأغصاتهم وبظلها وأتمنى أن تبقى وتبقى إلى الأبد، أموت لو ماتت فحياتي كأس والشجرة الماء الذي يرويني.
كانت كبيرة فيصل حجمُها لمساحة المشفى مع حديقتها ربما أكبر قليلا وهي محاطة بالاشجار من كل الانواع وبالصيف يصبح طرفها البعيد اصفر الون كأزهارها عباد الشمس التي تكثر هنا وتمتلئ بالطيور كالبط والأوز والبجع، كم هي جميلة، إن للبجع جمال الأميرات، في احدى المرات التي جاءت بها إلى المكان كنت أجلس منزوية قرب شجرتي فاقتربت احداها مني وقبلت أن أطعمها قليلا فهي اللتي اقتربت مني كان يوم لا ينسى.
وصلنا وسار بي ظننت بالبداية أننا سوف نتجه لشرق المشفى، حيث الشجرة الأم لكنه ظل يسير ويسير حتى تجاوزنا حدود المشفى ووصلنا إلى الطريق وقطعناه حتى البحيرة، لم أزرها كثر ربما مرتين فعلِّي كان يخاف أن أنجرف بسبب أرضها الطينية وأسقط في الماء فتعودنا تجنب زيارتها، لكنه ظل يتقدم حتى بدأت العجلات تَغرُز بالطين، فتوقف وانحنى وحملني وسار بي دون أن ينطق بكلمة، حتى وصل لظل شجرة كبيرة لم أصل أبدًا لها من قبل، أجلسني قرب جِذعِها ثم استلقى قربي ينظر للبحيرة، ظل طويلا هكذا، فقد كانت إحدى عاداته التأمل، علمني إياها حتى أصبحت لصيقةً بي أيضا، عرفت أنه لا وقت لدينا، فهو عند الظهيرة سيسافر، لكنني كنت أعرف أنه هو أيضا يتحرق شَوقًا ليعرف، وكنت على حق، فهو لم يلبث أن قلب جسده ليتكأ على صدره ورأسه بين كفيه ونظر لي وسألني: "ألن تخبريني ماذا حصل؟"
تصنعت اللامبالاة ونظرت إلى البُحيرة، لكني أيضا يجب أن أبادر،
-"لا، لن أفعل". فعاد واستلقى على ظهره وقال: "أظن أنني أعرف ماذا يعني هذا، تريدين الثمن؟ ما رأيك أن أخبركِ أين أنا ذاهب اليوم؟"
فعرفت أنه يماطل، فقطعت علِّيه الطريق وأخبرته: "ذاهب إلى باريس، ولن تعود قبل انقضاء عطلة نهاية الأسبوع، وأظن أن هناك فتاة بالأمر، ربما فيلم سينما أو مسرح أو أوبرا، لا يهم".
-"يبدو أنك تعرفين ما أخطط له، لكن مع ذلك فلدي ما أقايض عليه، ما رأيك أن أخبرك كل ما سيحصل، أعرف أنني أفعل هذا، لكني لن أفعل إن لم توافقي، ما رأيك؟"
عرفت أننه كسب، لكنه يخبرها كل شيء، لكن هذه المرة لن أسمح له بإخفاء شيء، وهو يعرف أنني أعرف باخفائه بعض الأُمور، لكنه لا يهتم، فهو يفعل ما ويخبرنا بما يريده، هو لا يكذب، لذلك يعترف أنه لا يقول كل شيء دون أي إحساس بالذنب.
قلت: "كل شيء؟" فوافق دون مماطلة، لكني جعلته يُقسم قسمًا خاصًا بأنه سيقول لي كل شيء، فأخبرته بكل ما حصل مع د.سوزان، وأخبرته بالنهاية أنني فعلًا أظنها مختلفة عن باقي من مر علِّي من الأطباء.
وعندما انتصف النهار أديت أنا أيضا ذلك القسم بأن أعمل بكل جهدي لتنجح هذه الطبيبة معي، ثم غيرة الموضوع وسألته عن وجهته مع تلك الفتاة.
قال: "سنذهب لحفلة وسأراقصها حتى منتصف الليل كأمير سندريلا". وبدأ يُراقص فتاة وهمية، فسرحت بخيالي متسائلة كيف ستكون الفتاة؟ وكيف سيرقصان؟ وما ثوبها؟ فلم أنتبه له وهو يتوقف عن الرقص وينظر لي، ظل ينظر طويلا حتى تنتبهت لسلوكه، فرفعت رأسي لأراه وهو يضع يديه بوضعية الراقص، ثم انخفض وجلس على الأرض وقال لي برقة : "أنا... أنا آسف... لم أقصد أن، لكن من قال أنك لا تستطيعين الرقص؟"فانتفض ووقف على قدميه ثم انحنى وكأنه الأمير وأنا تلك السندريلا وطلب مراقصتي، لم أعرف ماذا علي أن أفعل، أنا فعلًا أتمنى أن تظهر الساحرة لتهب لي قدمين تستطيعان السير، بل والرقص، لكنه لم ينتظر ردًا فأخذني بين ذراعيه وحملني فألصق جسده بجسدي وبدأ يُراقِصُني وهو يشعر بثِقَل حَملي والتحرك في وقت واحد، لكنه ظل يرقص ويرقص حتى انهار ووقعنا معًا على الأرض.
سقط فوقي فأزاح ثقله عني بسرعة ثم إستدار ليطمئن علي، وظل يعتذر: "أنا آسف، حقا أنا آسف، لم أقصد ذلك، يالي من أحمق، أعدك ألا أفعل ذلك مرة أخرى".
لكنني نطقت وبدون أي تفكير: "لا، لا تعدني بذلك، أقصد هذا جميلا، بل رائع، علِّي، لن أموت قبل أن أرقص تلك الرقصة، أقصد أنك، شكرًا، أنا حقًا سعيدة".
وظل ينظر لي كما فعلت، وكلٌ منا مستلقٍ على الأرض تحت شجرة الصفصاف أمام البحيرة، بدا شعره البني ذهبيًا تحت أشعة الشمس وبشرته الحنطية بدت بلون البرونز، أما عيناه بلون العسل الصافي، فأخفاهم تحت جفونه المغلقة.
في النهاية وضع ظهر يده على جفني وسألني: "ألا يريدُ مَلاكي العودة إلى العصفورية؟"حركت رأسي إيجابا، وأنا لا أرغب في العودة فعلًا، وضعني في الكرسي، كان بعيدًا حتى ظننت أنه أبعد من مكانه الذي تركناه فيه.
عاد بي إلى المشفى وأجلسني تحت الشجرة الأم، فأنا أجلسُ في مكان بعيدا عن باقي المرضى، ثم ودعني بأن ضمني سريعًا وغادر، وعدت أتابع قراءة الرواية بذهنٍ شارد، فآثرت التوقف عن القراءة حتى لا أضيع جمال هذه الرواية بشـرودي هذا،وصرتُ أتامل الطيور وهي تسعى بالأرض حتى قارب المغيب وبدأت تعود لأعشاشها فوق الشجرة الأم.