كتاب " تقرير إلى غريكو " ، تأليف نيكوس كازنتزاكيس ، وترجمة
أنت هنا
قراءة كتاب تقرير إلى غريكو
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أستعيد وأنا وحدي الآن فجر الخريف الذي كان يهبط بغاية الهدوء واللطف كطفل صغير مع الفصل الأول.
"اقرئي يا لينوتسكا.اقرئي ودعيني أسمع".
"أجمع أدواتي: النظر والشم واللمس والذوق والسمع والعقل.خيم الظلام وانتهى عمل النهار.أعود كخلد إلى بيتي، الأرض، ليس لأني تعبت وعجزت عن العمل.أنا لم أتعب. لكن الشمس قد غربت..".
لم أستطع المتابعة. برز نتوء في حلقي. كانت هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها نيكوس عن الموت.
لم تكتب وكأنك تستعد للموت؟
هكذا صرخت بيأس حقيقي، وقلت لنفسي: "لم قَبِلَ الموت اليوم؟".
- لا تقلقي يا زوجتي فأنا لن أموت. أجاب دون أي تردد: "ألم اقل إنني سأعيش عشر سنين أخرى؟". أصبح صوته الآن أكثر خفوتاً. ثم مد يده ليلمس ركبتي: "هيا بنا الآن.اقرئي. دعينا نر ماذا كتبت".
لقد أنكر الأمر أمامي. ولكن ربما كان يعرف به في أعماقه. ففي تلك الليلة ذاتها وضع الفصل في مغلف وأرسله إلى صديقه بانتديليس بريفيلاكيس: "هيلين لم تستطع أن تقرأه. فقد أخذت تبكي. إلا أن من الخير لها - ولي أيضا - أن تتعود.."
ويبدو أن شيطانه الداخلي قد حثه على ترك (فاوست: الجزء الثالث) الذي كان يرغب في كتابته، وأن يطلق بدلاً منه سيرته الذاتية.
"التقرير" مزيج من الواقع والخيال. كمية كبيرة من الحقيقة والحد الأدنى من التخيل.لقد تم تغيير عدة تواريخ فيه. ولكن حين يتحدث عن الآخرين فإنها الحقيقة دون تغيير: ما رآه تماماً وما سمعه؛ وحين يتحدث عن مغامراته الشخصية فإن هناك بعض التعديلات. إ لا أن هناك شيئاً واحداً مؤكداً وهو أنه لو استطاع إعادة كتابة هذا "التقرير" لغيرَّه. أما كيف؟ فهذا ما لا نعرفه. كان سيُغنيه. ذلك أنه كان يتذكر أحداثاً جديدة قد نسيها. كما أنه، أيضا، كان سيسكبه، كما أعتقد، في قالب الحقيقة. فقد كانت حياته الفعلية مليئة بالمادة: الألم والفرح والعذاب.. وبكلمة واحدة كانت حياته مليئة بالعزة. لم كان سيغير حياته؟ ليس بسبب اللحظات الصعبة من الضعف والانطلاق والألم. بل على العكس من ذلك أن هذه اللحظات الصعبة ذاتها هي التي كانت تتحول لدى كازنتزاكيس إلى درجات جديدة تساعده على الصعود أعلى فأعلى - الصعود حتى الوصول إلى القمة، التي وعد نفسه بالتسلق إليها قبل هجر أدوات العمل بسبب هبوط الليل. لقد توسل إلى مكافح آخر قائلاً: "لا تحكموا علي بأعمالي ولا تحكموا علي من وجهة نظر الإنسان. بل احكموا علي من وجهة نظر الله - ومن الهدف المختصر وراء أعمالي".
هكذا كان يجب أن نحكم على كازانتزاكيس. ليس بما فعله، وبما إذا كان ما فعله ذا قيمة سامية أم لا. بل علينا أن نحكم عليه بما أراد أن يقوم به، وبما إذا كان لما أراد أن يقوم به قيمة سامية له ولنا أيضاً.
بالنسبة لي أعتقد أنه كانت له هذه القيمة. وفي السنوات الثلاث والثلاثين التي قضيتها إلى جانبه لا أذكر أنني خجلت من تصرف واحد قام به. كان نقياً ودون مكر، وبريئاً وعذباً، بلا حدود، مع الآخرين، وقاسياً مع نفسه فقط. وحين ينسحب إلى عزلته، فإنه كان يفعل ذلك لإحساسه أن الأعمال المطلوبة منه قاسية وأن ساعاته محدودة.
لقد اعتاد أن يقول لي، وعيناه الفاحمتان المدورتان المدورتان غارقتان في الظلمة ومليئتان بالدموع: "أحس كأنني سأفعل ما يتحدث عنه برغسون - الذهاب إلى ناصية الشارع ومد يدي للتسول من العابرين: زكاة يا إخوان، ربع ساعة من كل منكم. آه على بعض الوقت. ما يكفي فقط لإنهاء عملي، وبعدها فليأت كيرون(2)".
وجاء كيرون - عليه اللعنة! - وحصد نيكوس في زهرة شبابه. نعم أيها القارئ العزيز. لا تضحك.فقد كان ذلك هو الوقت المناسب للازدهار والإثمار بالنسبة لكل ما بدأه ذلك الرجل الذي أحببته والذي أحبك، صديقك نيكوس كازانتزاكيس.
جنيف، 15 حزيران 1961
هيلين.ن.كازانتزاكيس•