أنت هنا

قراءة كتاب تقرير إلى غريكو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تقرير إلى غريكو

تقرير إلى غريكو

كتاب " تقرير إلى غريكو " ، تأليف نيكوس كازنتزاكيس ، وترجمة

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 8

انحنيت وانزلقت في الكهف. تجولت وتجولت في مياه سوداء متجمدة. نوازل زرقاء مدلاة فوق رأسي وصواعد صخرية هائلة تبرز من الأرض متلاحقة ومتضاحكة تحت ضوء المشعل. هذا الكهف كان مجرى نهر كبير غير مجراه عبر العصور فهجره وتركه فارغاً.

هسهس الثعبان البرونزي غاضباً. فتحت عيني، فرأيت الجبال والوادي والمنحدرات الصخرية من جديد.توقف الدوار. ثبت كل شيء، وامتلأ بالضوء. فهمت: بالطريقة ذاتها استطاع يهوه أن يشق طريقه بين الصخور الهائلة المحيطة بي. لقد دخلت المجرى الرهيب وكنت أتبع - أخطو - على آثاره.

صرخت في حلمي: "هذا هو الطريق. هذا طريق الإنسان. وهو الطريق الوحيد!". وما أن خرجت هذه الكلمات الجريئة من فمي حتى لفتني زوبعة ورفعتني أجنحة. وبغتة وجدت نفسي على قمة سيناء. كانت رائحة الكبريت تملأ الهواء. وكانت شفتاي تؤلمانني، وكأن شرارات لا حصر لها تخترقهما. فتحت جفني. لم يسبق لعيني ولم يسبق لأحشائي أن استمتعت بمنظر لا إنساني بهذه الحدة، ومتوافق مع قلبي بهذا المقدار. بلا ماء، ولا أشجار، ولا كائن بشري، ولا أمل. هنا تستطيع نفس الإنسان الفخور أو اليائس أن تجد السعادة المطلقة.

نظرت إلى الصخرة التي أقف عليها. كان هناك تجويفان عميقان محفوران في الغرانيت. لا بد أنهما آثار قدمي النبي ذي البوق الذي كان ينتظر ظهور الأسد الجائع. ألم يأمر (أي الله) النبي أن ينتظر على قمة جبل سيناء؟ لقد انتظر.

وانتظرت أنا أيضاً. انحنيت فوق حافة الجرف، وأصغيت بانتباه. وبغتة سمعت الرعد الهادر لخطوات بعيدة. بعيدة جداً. شخص ما كان يقترب. واهتزت الجبال وابتدأ منخراي يرتعشان. صار للهواء من حولي رائحة كرائحة الفحل الذي يقود القطيع. "إنه قادم، إنه قادم". تمتمت بهذه الكلمات وأنا أستعد. كنت أهيئ نفسي للقتال. أه، كم تقت للّحظة التي سأجابه بها هذا الوحش الضاري القادم من الغابة الكبرى. أجابهه وجهاً لوجه دون أن يتدخل العالم المرئي الصفيق ويضللني! متى سأجابه ذلك (الأب) اللامرئي النهم الطيب القلب الذي يلتهم أبناءه، والذي تقطر شفتاه ولحيته وأظافره دماً؟

سأتحدث إليه بجرأة، سأحكي له عن معاناة الإنسان ومعاناة الطير والشجر والصخر. كنا جميعا مصممين، برغبة، على الموت. وأمسكت بيدي استرحاماً وقّعت عليه الأشجار والطيور والوحوش والبشر: "يا أبانا، لا نريدك أن تأكلنا!". سأعطيه هذا الاسترحام ولن أخاف.

تحدثت وتوسلت بهذه الطريقة وأنا أستعد وأرتعد•

وفيما أنا منتظر كان يبدو أن الحجارة تتحرك. وسمعت أنفاساً عظيمة.

همست: "انظروا إليه! لقد أتى".

التفت مرتعشاً لكنه لم يكن يهوه. لم يكن يهوه. بل كنتَ أنت أيها الجد القادم من تربة كريت الحبيبة. كنت تقف أمامي نبيلاً صارماً بلحيتك الصغيرةالبيضاء كالثلج، وبشفتيك الجافتين المضمومتين ونظرتك المنتشية المليئة باللهب والأجنحة وجذور الزعتر متشابكة مع شعرك.

نظرت إلي. وحين نظرت إلي أحسست أن هذا العالم كان غيمة ملفعة بالريح والصواعق. وأن روح الإنسان غيمة ملفعة بالريح والصواعق و أن الخلاص غير موجود. رفعت عيني لأنظر إليك. وكنت على وشك أن أسألك يا جدي،إن كان صحيحاً أن الخلاص غير موجود؟ لكن لساني التصق بحلقي. كنت على وشك الاقتراب منك. ولكن ركبتي ارتختا تحتي.

عندها مددت يدك وكأنني أغرق؛ وكأنك تريد أن تنقذني.

تمسكت بها ملهوفاً. كان مزينة برسوم متعددة الألوان. يبدو أنك ما تزال ترسم. كانت الكف تحترق. اكتسبت قوة وزخماً من لمستي لها وصرت قادراً على الكلام.

- مرني أيها الجد الحبيب.

وأنت تبتسم وضعت كفك على رأسي.لم تكن كفاً بل ناراً ملونة، واخترق اللهيب دماغي حتى الجذور.

الصفحات