أنت هنا

قراءة كتاب تقرير إلى غريكو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تقرير إلى غريكو

تقرير إلى غريكو

كتاب " تقرير إلى غريكو " ، تأليف نيكوس كازنتزاكيس ، وترجمة

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 6

تمهيد

أجمع أدواتي: النظر والشم واللمس والذوق والسمع والعقل. خيم الظلام وقد انتهى عمل النهار. أعود، كالخلد، إلى بيتي، الأرض. ليس لأنني تعبت وعجزت عن العمل، فأنا لم أتعب، لكن الشمس قد غربت.

لقد غربت الشمس. وأصبحت التلال معتمة. وما تزال حواف جبال عقلي تحتفظ بالقليل من الضوء على قممها. لكن الليل المقدس يهبط.

إنه ينهض من الأرض وينزل من السماء. وقد أقسم الضوء أن لا يستسلم. غير أنه يدرك أن لا خلاص.لن يستسلم. لكنه سيخمد. ألقي نظرة أخيرة حولي. لمن سأقول وداعاً؟ ولأي الأشياء؟ للجبال؟ للبحر؟ للعريشة المحملة بالعناقيد على شرفتي؟ للفضيلة أم للخطيئة؟ أم للماء العذب؟.. عبثاً، عبثاً. فكلها ستنزل معي إلى القبر.

لمن أبث أفراحي وأحزاني - أشواق الشباب السرية والوهمية؟ الصدام العنيف مع الله والناس؟ وأخيراً الكبرياء الوحشية في الشيخوخة، التي تحترق وترفض، حتى الموت، أن تتحول إلى رماد؟ ولمن أحكي عن المرات العديدة التي فيها انزلقت وسقطت وأنا أتسلق أربعات(4) في صعودي الوعر الشاق إلى الله، المرات التي نهضت فيها مضرجا بالدم لأعود مرة أخرى إلى الصعود؟ أين أستطيع أن أجد روحاً عنيدة بآلاف الجراح مثل روحي، لكي تستمع لاعترافي؟ بهدوء وإشفاق أعتصر كمشة من التراب الكريتي في راحتي.كنت أحتفظ بهذه التربة معي دائماً، خلال تجوالي. فأنا أضغطها في كفي في لحظات الألم الكبير فأستمد منها القوة، القوة العظيمة، كأنني أستمدها من الضغط على يد صديق حبيب وغال. أما الآن وقد غربت الشمس وأنجز العمل، فما الذي أستطيع أن أفعله بالقوة؟

لم أعد بحاجة إليها. إنني أمسك بهذه التربة الكريتية وأعتصرها بفرح جليل وبرقة وامتنان وكأنني أعتصر في كفي نهد امرأة أحببتها لأودعها.

هذه التربة هي التي ما كنته دائما وأبداً. وهذه التربة هي ما سأكونه دائماً وأبداً.آه يا طين كريت القاسي!! لقد انزلقتْ كومضة فريدة تلك اللحظة التي اعتصرت بها وتشكلت في هيئة إنسان مكافح.

أي كفاح كان في هذه القبضة من الطين؟ وأي ألم؟ وأية مطاردة لهذا الوحش آكل البشر غير المرئي؟ وأية قوى قدسية وشيطانية معاً؟ لقد جبلت بالدم والعرق والدموع، أصبحت وحلاً، أصبحت إنساناً وابتدأت صعودها. لتصل إلى ماذا؟ لقد تسلقت لاهثة نحو عظمة الله القاتمة ومدت ذراعيها وتلمست. تلمست بجهد جهيد علها تجد وجهه.

وحينما يدرك الإنسان هذا في سنواته الأخيرة، وييأس، لأن هذه العظمة القاتمة ليس لها وجه، أي كفاح جديد بكل صفاقة ورعب، يعاني ليشق طريقه إلى تلك القمة الشائكة ويعطيها وجهاً! وجهه هو!

ولكن الآن وقد أنجز عمل النهار فإنني أجمع أدواتي. فلتأت كمشات أخرى من التراب ولتتابع الكفاح. فنحن، الفانين، جماعة عمل الخالدين، دمنا مرجان أحمر. ونحن نبني جزيرة فوق الهاوية.

لقد تحقق الله. وأنا أيضا قد أسهمت بحصاتي الحمراء الصغيرة، قطرة الدم، لكي أجعله صلباً، ولكي لا يتلاشى- لعله يمنحني الصلابة فلا أتلاشى.لقد أديت واجبي.

الصفحات