أنت هنا

قراءة كتاب تقرير إلى غريكو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تقرير إلى غريكو

تقرير إلى غريكو

كتاب " تقرير إلى غريكو " ، تأليف نيكوس كازنتزاكيس ، وترجمة

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 10

1] الأسلاف

أتطلع إلى نفسي وأرتعد. فمن جهة والدي كان أسلافي على الماء قراصنة متعطشين للدماء، أو عصابات على اليابسة، لا يخافون الله ولا الإنسان. ومن جهة أمي كانوا فلاحين طيبين وقذرين يبحنون بثقة على الأرض طوال النهار: يبذرون وينتظرون واثقين المطر والشمس، ويحصدون. وفي المساء يجلسون على المقاعد الصخرية أمام بيوتهم يعقدون أذرعهم ويضعون أملهم في الله.

النار والتراب. كيف أوفق بين هذين السلفين المتناقضين في داخلي؟ أحسست أن هذا واجبي: أن أصالح بين المتعاديين، أن أسحب الظلمة السلفية من جنبي وأحولها، بأقصى ما يمكنني، إلى ضوء.

أليس أسلوب الله هكذا؟ أوليس واجبنا أن نطبق هذا الأسلوب مقتفين آثاره؟ حياتنا ومضة سريعة لكنها كافية.

الكون كله يتبع هذا الأسلوب وهو لا يدري. وكل كائن حي مشغل يقوم فيه الإله سراً، بعمله وتحويله للطين. لهذا تزهر الأشجار وتثمر. ولهذا تتكاثر الحيوانات. ولهذا تجاوز القرد قدره ووقف منتصباً على قدميه. والآن، وللمرة الأولى منذ أن خلق العالم، تمكن الإنسان من دخول المشغل الإلهي والعمل إلى جانبه (إلى جانب الله). وكلما استطاع أن يحول اللحم إلى حب وبسالة وحرية أصبح بحق ابناً لله. إنه واجب عات لا يشبع. ولقد كافحت عبر حياتي وما أزال أكافح. إلا أن ذرة من الظلمة تظل موجودة في قلبي. وباستمرار يتجدد الصراع. إن الأسلاف العجائز الأبويين مغروسون في أعماقي. ويظلون في تموجهم. ومن الصعب علي أن أتميز وجوههم في الظلمة الحالكة. وكلما توغلت أكثر في بحثي عن أول سلف رهيب في أعماقي وأنا أتغلغل في ركام روحي - الفرد، القومية، والأجناس البشرية، قهرني رعب مقدس. في البدء تبدو الوجوه كوجه أخ أو وجه أب، ثم، ما أن أتعمق نحو الجذور حتى يبرز بين جنبي سَلَفٌ كثيف الشعر كبير الفكين يجوع ويظمأ ويخور وعيناه مليئتان بالدم. هذا السلف هو الوحش الضخم الأشعث الذي أعطي لي لكي أحوله إلى إنسان - ولأرفعه إلى ما يسمو على الإنسان إن استطعت في الوقت المخصص لي. فأي صعود مخيف من قرد إلى إنسان! ومن إنسان إلى إله!

ذات ليلة كنت أتمشى مع صديق على جبل عال مغطى بالثلوج. تهنا وخيم علينا الظلام. لم تكن هناك غيمة واحدة في السماء. وكان القمر أخرس مكتملاً ومعلقاً فوقنا. تلامع الثلج أزرق شاحباً طوال الطريق من قمة الجبل، حيث وجدنا أنفسنا، إلى السهول تحتنا. كان الصمت متحجراً ومقلقاً - وغير محتمل. لا شك أن الليالي المغسولة بالقمر كانت مشابهة لهذه الليلة منذ آلاف الدهور. وذلك قبل أن يكون هذا الصمت غير محتمل. فأخذ الخالق الطين وصنع منه إنساناً.

كنت أتقدم صديقي بخطوات قليلة، وكان عقلي يلفه دوار غريب. تعثرت كسكران. وبدا لي، وأنا أمشي، كأني أمشي على القمر أو أنني، قبل مجيء الإنسان، موجود على أرض مغرقة في القدم وغير مأهولة - ولكنها مألوفة جداً. وبغتة وعند أحد المنعطفات لمحت أضواء خافتة تشع بشحوب من بعيد قرب قاع المسيل. لابد أنها قرية صغيرة ما يزال أهلها مستيقظين. عندها حدث لي شيء غريب ما أزال أرتعد حين أتذكره.

توقفت وأشرت بقبضتي المشدودة إلى القرية وصرخت غاضباً: "سأذبحكم جميعاً!".

الصفحات