أنت هنا

قراءة كتاب صدى الزور البعيد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
صدى الزور البعيد

صدى الزور البعيد

في رواية "صدى الزور البعيد"؛ هل يكون العالم الذي نعيش فيه جزءاً من عالم أكبر؟

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1
-1-
 
للمرة الأولى فقط، فتح عينيه على عالم جديد·كانت الأشياء، في لحظات الزمن تلك، في مكانها الأول، فالضفة الكربونية الملتصقة بصفحة وجهه، أخذت تناديه بلسان الماء، ورطوبة الضفة راحت تتغلغل في مسامات ساعديه المتعرقتين، بينما كان جسده المتهالك على منحدر السدة لا يختلف كثيراً عنها إلا في مميزات صغيرة لا تكاد العين أن تدركها·
 
كان يذكر أن جانباً من الشمس قد استند على منكبيه حينما وصل إلى وضع النهايات الأخيرة لترميم السدة، وصفيح مياه النهر الحاد الممتد على مدى الأفق، صار رويداً رويداً يقضم وجهه الحنطي الأسمر، لكنه تابع تثبيت الصخرة الأخيرة على تلة السدة· فكان يئن ويلهث في تركين تلك الصخرة البيضاء المسننة· وفي البداية راح صفيح الماء إلى دوائر ذبابية باهتة لم تقتحم عينيه فقط، بل تناولت أيضاً ذاكرة الحب لديه· فطيف فاطمة، حين رفـع رأسه، تصدع في مخيلته وزال، وتشكلت بدلاً منه خيوط ذباب، وسع مقلة العين المخضبة، كما خامر إحساسه شـعوراً أن جبهته ستندلق على العالم ساخنة مريرة، ومن يافوخه سيصعد دخان، وأدرك بغموض أن قلبـه قـد هـرم في الثواني الأخيرة من سنواته السبع عشرة، وروحه تريد أن تمزق شغاف صدره فتطير· غير أن مشاعره تجانست بعد ذلك مع العلوة كلها، لقد اختفى الصوت من حياته، وصارت لغة أخرى تمتلكه لمصير تلك اللحظات الطويلة، فكلما اقتربت الشمس من مخيلته كان يزداد في فهم الجانب الآخر من العالم، عالم الإيماء والصمت السري·
 
لقد تحول جمع الرجال الذين كانوا ينادونه لتناول الطعام تحت شجرة زايد، إلى حلقات تطير في الفضاء وترتفع فوق أغصان الشجرة العارمة· استدار برأسه قليلاً إلى الخلف كي يقول لهم إن ضفة النهر وتراكمات السدة وصخورها، شدف الأشجار المغروسة في مقدمة سطحها قد اختلفت عما كانت عليه، إنه يراها على غير سكونها المعهود، فشيء من الصدى كان يرفعها إلى الأعلى، وكانت السماء تغوص بتكوين الأرض، فأراد أن يرفع صوته ويصيح حتى الرحبة تكاد تحلق هي الأخرى في السماء·
 
لكن والده عبد الله الرحبي، تحت الشجرة البعيدة، غلبه شعور أمومي أن هدلة ستهبط كالهبوب باتجاه ولدها الذي ستأخذه ( حربة النجم )(*)، فاستدار بجذعه ناحية العلوة المحروقةبشمس ومطر وفمه ممتلئ بلقم العصيدة الساخنة·
 
كانت الطريق الهابطة إليهم من سفح العلوة فارغة، حتى من النسمات التي احتساها عبد الله الرحبي صباحاً، حينما استيقظ على صياح ديكة أبي فاطمة، فرغم التعب الذي شعر به من عمل البارحة، إلا أنه أمل في الانتهاء من بناء السدة، ومع شروق الشمس من الضفة الأخرى، ازدادت عزيمته، وتوثقت حينما نظر الى عمله الكبير الذي دخل يومه التاسع· وقال في نفسه: لولا جملي محمد ما خلص بالسرعة هذه·
 
وقد توقع عبد الله الرحبي، السليل السادس لأسرة انحدرت من قلعـة الرحبة، بعد انحسار مياه النهر من جانبها الشرقي، بأن ترميم السدة العجوز لهذا العام سيكون صعباً· فالأمطار التي لم تنقطع في السماء، والثلوج المتساقطة في مرتفعات آرارات، كما علم من القوافل الآتية من عينتاب والقسطنطينية، جعلته يخمن الحد الذي سيبلغه النهر في فيضانه لهذا العام· كان منظر البستان، جانب النهر، الذي سيغمره الفيضان يفزعه بأسى، فالأشجار ستحرقها المياه، ونبات الفول الأخضر سيختنق في ظلمات الطمي العكر، والمياه ستطم عنق شجرة زايد· هذا إذا وقفت عند ذلك، مثلما حدث منذ ثماني سنوات، وذهبت ظنونه الى أن الطمي سيدخل البيوت ويجتاح الدروب، ثم يطاردهم إلى مكانهم الأول في قلعة الرحبة· النهر سيعود من جديد إلى الإتساع والعظمة، إلى مكانه الأول منذ نهاية الطوفان·
 
حدث ذلك منذ زمن بعيد، حين بنى الأجداد البناء الشامخ على شاطئ النهر· في عصر الآجر والطوب أشاد الجد الأول مع أبنائه معبد الرحبة، فوق الجبل الممتد نحو الشرق· ولم تنحدر سلالته إلى العلوة إلا بعد انحسار النهر عن قلعة الرحبة، ثم ابتعاده عنها· وبتقدير ملهم من قبل كاهن العائلة قرؤوا مياه الطوفان يغمر العلوة ثماني مرات، يطاردهم فيها النهر المارد كل مرة إلى رحبتهم من جديد· وما يعرفه عبد الله الرحبي بسبع مرات حتى الآن، كل مرة تغوص العلوة في قاع النهر وترتج جدران الرحبةبقسوة النهر الهائج· سبع مرات غابت العلوة في الأرض، وبقيت المرة الأخيرة، فالثامنة قادمة، وقد ظن عبد الله أنها في هذه السنة، موسم الربيع والموت معاً· ثم جال في فكره، فتذكر حلم النبوءة الذي ألهم جده ناصر في بناء سفينة تحميهم من الفيضان، لم يكن لذلك الزمن، إنما لا ريب لهذا اليوم والسنة·
 
ولعله تردد حين رأى أن الأراضي الجافة والنهر الميت لا يملكان القوةلحمل الطوفان الهائل، واعتبر من سيرة جده ناصر فعدل عن موقفه إلى بناء السدة فقط من دون السفينة التي بناها جده في فناء الدار تحسـباً للفيضان القادم، والتي تحولت مع السنين إلى مصطبة كبيرة يغمرها التراب والنفايات·

الصفحات