ككاتبٍ ومؤلِّفٍ حديثٍ في مجالِ الكتابةِ باللغةِ العربيّةِ عانيتُ الأمرّيْنِ على مدى أكثرَ من نصفِ عقدٍ من السّنينِ. لا يزالُ هذا الأمرُ يسيراً!
أنت هنا
قراءة كتاب سراب في كأس التفاؤل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 1
مقدّمةٌ
إذا ما انتشرت ثقافةُ الكذبِ وعمّتْ في مجتمعٍ فهي المقدّمةُ الأكيدةُ لبدءِ زوالِ حضارةِ المجتمعِ عن مسرحِ الوجودِ الفكريِّ الفاعلِ المؤثّرِ للبشريّةِ. للأسفِ الشديدِ يعيشُ العالَمُ حاليّاً عصراً فيهِ يفلحُ أهلُ الكذبِ أكثرَ بكثيرٍ مما لو كانوا صادقينَ مع أنفسِهم ومعَ الغيرِ. الكذبُ رذيلةٌ يجبُ العملُ على الحدِّ من تفاقمِها، بل والتخلّصِ منها ما أمكنَ. حاليّاً تجري الأعمالُ المتصلةُ برذيلةِ الكذبِ تحتَ أسماءَ وعناوينٍ برّاقةٍ في مجالِ الإعلامِ والتّسويقِ والتّنافسِ وبدافعِ الإمساكِ بزمامِ الأمورِ والمبادراتِ.
الطبيعةُ والحياةُ والزّمنُ جميعاً لا ينطلي عليها الكذبُ. لا بل إنَّ الطبيعةَ هي ألدُّ أعداءِ الكذبِ وهي الكاشفةُ الحقيقيّةُ لزيفِ الأمورِ وخداعِها. يبدأُ الكذبُ بأنْ يكونَ على النّفسِ وهذا أكثرُ أنواعِ الأعمالِ غباءَ، ثم ينتقلُ ليكونَ على الآخرينَ وذلكَ أكثرُ أنواعِ الأفعالِ جسارةً وعدوانيّةً وقبحاً. في النهايةِ تجتمعُ حصيلةُ الكذبِ على النّفسِ والآخرينَ لتودي بالأفرادِ والمجتمعاتِ والأممِ والحضاراتِ. بأيديها وأعمالِها وأفعالِها تذهبُ هذهِ الفئاتُ البشريّةُ إلى هاويةِ الاضمحلالِ والانقراضِ، غيرَ مأسوفٍ عليها وتُذكَرُ في كتبِ التّاريخِ والسّيرةِ على أنّها حلّتْ بها لعناتٌ مستحَقّةٌ.
كذبُ الجاهلِ قد يبرّرُهُ جهلُهُ، وكذبُ الفقيرِ قد يبرّرُهُ فقرُهُ وحاجتُهُ، وكذبُ الضعيفِ قد يبرّرُهُ ضعفُهُ وعوَزُهُ، وكذبُ المتخلّفِ عقليّاً وجسديّاً قد يبرّرُهُ تخلّفُهُ. في الطرفِ النقيضِ ما الذي يبرّرُ كذبَ المتعلّمِ والغنيِّ والقويِّ والقادرِ المتحكّمِ عقليّاً وجسديّاً؟!. من المفارقاتِ العصريّةِ أنَّ المتعلّمَ والغنيَّ والقويَّ والكاملَ عقليّاً يمارسونَ الكذبَ والتزويرَ والتلفيقَ والنّفاقَ أكثرَ من أضدادِهم من الجهلاءِ والفقراءِ والضعفاءِ والقاصرينَ عقليّاً وجسديّاً. اللهمَّ إلا من ثلّةٍ من البشرِ الصّالحينَ والأولياءِ والمرسَلينَ والمصلِحينَ والزّاهديَنَ والقانعينَ هنا أو هناكَ عبرَ التاريخِ إلا أنَّ جلَّ أفرادِ طبقاتِ المجتمعِ المختلفةِ يمارسونَ الكذبَ بحدّةٍ متفاوتةٍ وحسبَ الضّرورةِ وبناءاً على ما تقتضيهِ الحاجةُ.
الحالُ مع أعمالِ التّأليفِ والطّباعةِ والنّشرِ والتّوزيعِ والتسويقِ خاصّةً في البلدانِ النّاميةِ، وربّما النّاميةِ حصراً، هي امتدادٌ لدوّامةِ ثقافةِ الكذبِ التي تغرقُ فيها المجتمعاتُ المتخلّفةُ اجتماعيّاً واقتصاديّاً وتربويّاً وتعليميّاً وإداريّاً وتنظيميّاً. في ذلكَ يجبُ على المرءِ أنْ لا يغترَّ بأشكالِ وأقوالِ وتصرّفاتِ ووعودِ النّاشرينَ، التي في معظمِها جوفاءُ خرقاءُ وتعجُّ بالصّفاقةِ ونقصِ احترامِ ذكاءِ وحفظِ حقوقِ الغيرِ. على المرءِ الذي يتمتّعُ بالحدِّ الأدنى من الحكمةِ والعقلانيّةِ ومحاولةِ الحفاظِ على حقوقهِ وماءِ وجههِ أنْ يذهبَ إلى أبعدَ من ذلكَ، وبكثيرٍ على الأرجحِ!. على السلطةِ الرسميّةِ الرّشيدةِ أنْ تتدخّلَ بحزمٍ كافٍ في أمورِ الكتابةِ والطّباعةِ والنّشرِ والتوزيعِ والتسويقِ بشكلٍ يقلّلُ الآثارَ المشينةَ لثقافةِ الكذبِ المستشريةِ. بمعنىً آخرَ يجبُ على الحكومةِ فرضُ أمرٍ واقعٍ يستلزمُ وضعَ عقدِ اتفاقٍ بينَ الكاتبِ والنّاشرِ يخوضُ في كافّةِ التفاصيلِ الأساسيّةِ والفرعيّةِ العامّةِ والدّقيقةِ. عقدٌ "اجتماعيٌّ" يحفظُ حقوقَ كافّةِ الأطرافِ ويرحمُهم من أنفسِهم لأجلِ أنفسِهم، ولا يسمحُ لشياطينِ التفاصيلِ من السيطرةِ والتحكّمِ بالأوضاعِ؛ يكونُ ذلكَ منذُ الدّقيقةِ الأولى لتسليمِ المخطوطةِ للنّشرِ وحتى بيعِ آخرِ نسخةٍ من الإصداراتِ. ذلكَ أسوةً أو تأسّياً بما وصلت إليهِ الحالُ في دورِ النّشرِ في العالَمِ المتحضّرِ شمالاً وغرباً، لكنْ ليسَ شرقاً وجنوباً.
ككاتبٍ ومؤلِّفٍ حديثٍ في مجالِ الكتابةِ باللغةِ العربيّةِ عانيتُ الأمرّيْنِ على مدى أكثرَ من نصفِ عقدٍ من السّنينِ. لا يزالُ هذا الأمرُ يسيراً! مقارنةً مع غيرِيَ ممّن نموا وترعرعوا وقضوْا نحبَهم في الكتابةِ، إمّا فيها أو من الجوعِ والمرضِ لضعفِ المردودِ الماديِّ وتفاقمِ سوءِ الطّالعِ فيها. في هذهِ الأطروحةِ ودَدْتُ لو يستفيدُ الكتّابُ والنّاشرونَ والقرّاءُ والمسئولونَ وعامّةُ النّاسِ من هذهِ التجربةِ التي وإنْ وُضِعتْ على شكلِ روايةٍ قصصيّةٍ تجنّباً لإحراجِ البعضِ، أو الإحراجِ من البعضِ، إلا أنّها حقيقيّةٌ حتّى نخاعِ العظمِ. من المعروفِ أنّهُ في المجتمعاتِ العربيّةِ الحاليّةِ لا يرغبُ المسئولونَ برؤيةِ نصٍّ أدبيٍّ تحليليٍّ واقعيٍّ يضعُ النّقاطَ على الحروفِ ويسمّي الأمورَ والأسماءَ بمسمّياتِها. لذلكَ ينامُ اللصُّ أو الكذّابُ أو السّارقُ أو النصّابُ أو الملعونُ، كلٌّ قريرَ العينِ حينَ يرى أنَّ اسمَهُ وسمعتَهُ وشرفَهُ يحميها جميعاً جمعٌ عرمرمٌ من الجيشِ والشرطةِ والأمنِ السريِّ والعلنيِّ، والدّستورِ والقانونِ والعُرفِ الاجتماعيِّ فوقَ كلِّ هذا وذاكَ.
بتاتاً وأبداً وقَطعاً وعلى الإطلاقِ، لا أتمنّى لغيرِيَ الولوجَ في هكذا مصاعبَ ومتاعبَ وأهوالٍ وكوارثَ على الصحّةِ والأعصابِ والحياةِ الحسنةِ والمصيرِ في الدّنيا والآخرةِ. آملُ أنْ يتّسعَ صدرُ من تنطبقُ عليهِ هذهِ الأوصافُ المسرودةُ وأنْ يعملَ على إصلاحِ الأمورِ، من أجلِ نفسهِ أوّلاً وثانياً وثالثاً ... إلى ما قبلَ أخيراً. اللغةُ والثقافةُ والحضارةُ العربيّةُ والإسلاميّةُ بحاجةٍ ماسّةٍ من الجميعِ إلى وقفةٍ صادقةٍ مع النّفسِ والآخرينَ قبلَ أنْ يضيعَ زمامُ الأمورِ ويصبحَ غيرَ قابلٍ للاستردادِ، وعلى الإطلاقِ.
المؤلِّفُ