رواية "مدائن الأرجوان" للكاتب السوري نبيل سليمان، الصادرة عن دار الحوار للنشر والتوزيع عام 2013، نقرأ من أجوائها:
في الشرفة لبث واصف عمران يتفرج بحياد على باص الحضانة وهو يبتعد بثريا: أليست ابنتك أيها الوغد؟
أنت هنا
قراءة كتاب مدائن الأرجوان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
مدائن الأرجوان
الصفحة رقم: 1
خابيــــــــــــــة الأرجـــــــــــوان تندلــــــــقعلى الإسفلت:
في الشرفة لبث واصف عمران يتفرج بحياد على باص الحضانة وهو يبتعد بثريا: أليست ابنتك أيها الوغد؟
ما كاد الباص يختفي حتى أسرعت رمزية في الاتجاه المعاكس الذي يقودها إلى مديرية الصحة. وما كادت رمزية تختفي حتى عبّ واصف الهواء عبّاً، ثم أسرع ينهب الدرج العريض العتيق الذي يصل الأرض بالسماء: أليست امرأتك أيها الوغد؟
على السفح، أي على خد القلعة ـ كما تعوّد واصف أن يقول ـ تستلقي أربع وخمسون درجة لتصل بين الشارع وبين البيت العريق الفسيح الذي ورثته رمزية عن أبيها، وانتقلت إليه مع واصف ليلة الدخلة.
من البيت فصاعداً، يُسرع السفح معشباً حتى يبلغ مقام المغربي وجامعه ومقبرته. ثمة، تعوّد واصف أن يصير خذروفاً كل صباح، ليدور حول نفسه، معانقاً البحر من سائر الجهات، كما تعانقه التلة والثكنة وما تبقى من الشجر والشوك والعصافير. غير أن واصف بدّل عادته منذ صدّق أن اللاذقية باتت غير آمنة، أي منذ رآها تتخضّب بالأرجوان أول مرة ذات صباح من شهر منسيّ ـ ربما كان نيسان ـ من سنة منسية، ربما كانت سنة 1981.
كانت المدينة قد أفاقت على المطر يدفق دفقاً، والدرب الذي على واصف أن يتسلقه إلى تلّة المغربي أو تلّة القلعة، كان موحلاً، لذلك تأخر في الخروج. ومن وسط شارع المالكي انحرف إلى ساحة أوغاريت، ورأى الأعمدة الرومانية تغتسل جذلى، وخبط جذلان على باب بيت الدكتور عبد الرحمن هلال. وفوجئ بزوجة صديقه البلغارية تنبئ بذهاب الدكتور إلى العيادة منذ ساعة: شو شايفها بالمنام!
قرر واصف أن يتابع تسكعه تحت المطر، فلا أحد يأبه إن وصل إلى الثانوية الصناعية في بداية الدوام أم في نهايته. وحين صحا على أنه قبالة مديرية الصحة ـ وكان المطر قد أخذ يهدأ ـ التجأ إلى رمزية التي هالها بلله كما هال زميلاتها. ولما ذكر عبد الرحمن قالت إنها لمحته خارجاً من مكتبة عريف، فلوحت له، لكنه لم يرها. ولما لوّح واصف لها مودعاً في نهاية الكوريدور، صاح صوت مذعور: قتلوا الدكتور عبد الرحمن هلال.
قتلوا من يا مجنونة؟
ربما كان واصف آخر من صاح، مثلما كان آخر من صدّق أن شاباً ـ أو اثنين، ما الفرق حتى لو كانوا عشرة؟ ـ لحق بالدكتور الذي سبق الممرضة وفتح العيادة، وفجأة دوّى الرصاص، فما الفرق إن كانت رصاصة أم مائة، ما دام القاتل قد خرج يتهادى، وعبد الرحمن ظل ينزف حتى مات قبل أن تصل الممرضة؟
* * *
صباح الأرجوان أو صباح عبد الرحمن: كذلك سمّى واصف ذلك الصباح. ومن صباح إلى صباح، أدمن أن يستعيد ما ظلّ عبد الرحمن يعلمه لأصدقائه وصديقاته منذ كانوا صغاراً يتحلقون حوله على مشهد من أوغاريت، يعتلي حجراً في أية زاوية من زواياها، أو يغمس قدميه العاريتين في الرمل البليل، ويرخّم صوته حتى يصير مثل هسيس موجة: هنا كانت معصرة العنب، وهناك كانت معصرة الزيتون. هنا كان الحداد وهناك كان السباك. أما هنالك ـ وتذهب ذراعه إلى أبعد موجة ـ فكان الصياد والشبكة والطعم: سلطعون يا واصف.
هكذا تعلم واصف أن يفتح غدة السلطعون ويلتقط جزيئاتها الحديدية. لكن عبد الرحمن انتظر حتى مات، ليعلّم واصف وحده من بين أصدقائه جميعاً، كيف يبحر من راس ابن هاني مع من يصادف من الصيادين، وكيف يصبر حتى يؤوبوا بأحمال الرخويات من كل صنف، وكيف لا يفارق الفعلة وهم يعصرون الأحمال، ثم يملحون العصير ثلاثة أيام بلياليها، ويتركونه فوق نار هادئة عشرة أيام بلياليها، ثم يعهدون لواصف بالخابية الطافحة بالأرجوان، فلا يصبغ فستاناً من الحرير لرمزية، ولا غطاء من الصوف لأرملة عبد الرحمن، بل يرش صباح اللاذقية بالدم، فتنطوي المدينة خوف الاغتيال، وتنفلش إلى طوائف ومذاهب، وتودع الأمان، بينما يتوحد الدم والأرجوان.