يجد المؤلف نفسه في إعطاء تقييم للأراضي المقدسة عند تفحص وتدقيق مواده سواء المقدمة باختيار تاريخ بسيط من جهة، أو وصف محلي فحسب من جهة أخرى؛ وستقرر ميزة كتابه بالطبع باختيار ما سيعمله في الطبعة الأولى أو الثانية لهذا الكتاب.
أنت هنا
قراءة كتاب فلسطين في العصور القديمة - الأراضي المقدسة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في العصر السابق، عندما كانت المشاعر الدينية تثير في النفس شكلاً شعرياً أكثر مما يلائم الذوق والإحساس في الأوقات الحالية، لذلك فقد وضعت أهمية غير مناسبة أو ضرورية على مواقع وأماكن القدس الدينية فحسب، والتي اعتُبرت على أنها كانت مسرحاً لأحداث عظيمة فيما يتعلق بالمسيحية وتحققها، خصوصاً تلك الآثار الباقية التي اعتُبرت على أنها بقع وأماكن معينة ومحددة، شُرفت بمعاناة وانتصار مؤسسها المقدس. فالحاج المسيحي المتحمس، الذي كان يقطع عدة آلاف من الأميال وسط أخطار مرعبة جداً طلباً للسلوان لعقيدته في تأمل الصليب، أو أن يسمح له ليقبل عتبة القبر الذي «دُفن فيه جسد» المخلص يسوع المسيح. فبالنسبة لهذا الشخص فلا يمكن أن يكون ذلك تافهاً جداً، ولا يمكن أن تكون أيضاً تفاصيل معينة. فالتخريبات والإهمال التي ابتُليت بها القدس على أيدي الرومان، وعلى يد أبنائها الغاضبين المسعورين فيها، منجزاً بشكل غير مقصود ذلك القدر المشؤوم المروع الذي أُعلن من على جبل الزيتون. فالعابد البسيط كان يتوقع ليدخل قاعة المحكمة، وبيت بيلاطس (الحاكم الروماني الذي حاكم المسيح وأمر بقتله بضغط من اليهود)، وقصر الكاهن الأكبر أيضاً، ولأن يكون قادراً لتتبع آثار ذلك من خلال شوارع وأزقة المدينة المقدسة والممر الذي كان يؤدي إلى المكان الذي «صلب فيه» المنقذ (المسيح). فهذه الرغبة الطبيعية لإيقاظ التقوى من خلال المشاعر، وللتخلص من كافة عدم الإيمان، باللمس باليد والرؤية بالعين (ذكريات عملية الصلب)، كان سيكون لها أعظم الأثر، بدلاً من إفسادها أحياناً بالخيال أو بالتجاهل أيضاً.
إلا أنه من الجدير بالملاحظة مع ذلك، أنه بالنسبة لوضع القدس الحقيقي، والذي يكون محدداً جداً بحدودها الطبيعية التي لا يمكن أن تجتاز، فإنه توجد هناك صعوبة أقل في تحديد الأماكن التاريخية بدرجة معينة من الدقة لا يمكن أن يكون مجرباً في أية مدينة قديمة أخرى. ولا يمكن أن يكون مشكوكاً فيه بشكل معقول من أن المسيحيين الأوائل قد لاحظوا بعناية مميزة المواقع الرئيسة التي تميزت بمآثر ومعجزات أو بآمال سيدهم المسيح. حتى أنه من الطبيعي الافتراض، كما يلاحظ ذلك أيضاً السيد شاتوبرياند، من أن الحواريين (تلاميذ المسيح) وأقاربه، الذين شكلوا أول كنيسة على الأرض، كانوا على علم ومعرفة بجميع الظروف التي شهدها في حياته، وبدعوته ورسالته، وبنهايته، وبما أن جبل الزيتون لا يقع ضمن أسوار المدينة، فإنه كان أقل تقييداً في ممارسة وأداء عباداتهم في الأماكن التي كانت مكرسة بحضور المسيح المتكرر والقيام بمعجزاته. إضافة إلى أن المعرفة بهذه المشاهد سرعان ما امتدت على حلقة أو مدى واسع جداً. وزاد انتصار عيد العنصرة أو الخمسين من عدد المؤمنين بشكل واسع؛ وظهر بذلك حشد منتظم للمصلين كان يتجمع في القدس قبل نهاية السنة الثالثة من ذلك العهد البارز للدين المسيحي. وإذا ما اعتُرف من أن المسيحيين الأوائل لو سُمح وأُتيح لهم إقامة صروح ومعابد مرتبطة بعبادتهم الدينية، أو حتى لاختيار بيوت لتجمعاتهم الدورية، فإن الاحتمالية لن يكون مشكوكاً فيها من أنهم قد اختاروا تلك البقع المثيرة للاهتمام التي تكون متميزة بمعجزات دينهم وعقيدتهم.
عند بداية نشوء القلاقل في منطقة القدس، خلال حكم الإمبراطور الروماني فسبازيان (9-79م)، فقد انسحب المؤمنون من القدس إلى بيلا، ومن هناك، وبعد أن دمرت مدينتهم (القدس) عادوا إليها ثانية ليسكنوا بين الأنقاض. ولم يمكنهم أن ينسوا في غضون بضعة أشهر مقدساتِهم، التي كانت تقع عموماً خارج أسوار المدينة، لذلك لم تعانِ من عنف وشدة الحصار كالتي عانتها المباني والصروح الكبيرة داخل المدينة. ذلك أن الأماكن المقدسة كانت معروفة لجميع الرجال إبان عهد الإمبراطور أدريان آنذاك كحقيقة قائمة. فهذا الإمبراطور الروماني، عندما أعاد بناء المدينة ثانية، أقام تمثال لفينوس (إلهة الحب والجمال عند الرومان) على الجبل الذي (صُلب عليه المسيح)، وتمثال آخر لجوبيتر على الضريح أو القبر المقدس. ومنح كهف بيت لحم (المغارة التي وُلد فيها المسيح) لطقوس الآلهة أدونيس؛ وبذلك فقد سادت غيرة وحقد الوثنيين بتدنيسهم للمقدسات، والعقيدة الأسمى للصليب، والتي كانت هدفاً لهم ليخفوا تشويههم وافتراءَهم.
بيد أن أدريان، ومع أنه كان متحمساً جداً لآلهته، إلا أنه لم يضطهد المسيحيين على نطاق واسع. ويبدو أن استياءه كان منصباً على الناصريين (أبناء الناصر) في القدس، الذين لم يكن يعتبرهم كجزء من اليهود - وإنما أعداء لدودين لروما. ونفهم وفقاً لذلك أنه لم يقم بتشتيت أو منع كنيسة التطهير الروحي التي أنشئت في المدينة المقدسة، بل إنه سمح بتشكل مجتمع مسيحي داخل أسوار المدينة، المؤلف من يهود تحولوا إلى الدين المسيحي، والذين كانت مبادئهم السياسية أقل ضرراً بسيادة الإمبراطورية الرومانية، كما تصور. وكتب بالوقت نفسه إلى حكامه في الأقاليم الآسيوية يأمرهم بأن لا يضايقوا المؤمنين بالمسيح وتركهم حسب عقيدتهم فحسب، وإنما بأن يركزوا كافة العقوبات التي ترتكب ضد القوانين والأنظمة وتعكير الهدوء العام. لذلك فإنه من المعروف بشكل عام تماماً أنه خلال ذلك العصر من الهدوء والاستقرار، وحتى لغاية حكم الإمبراطور ديوقليتانوس (284-305م)، فإن المؤمنين في القدس، التي أصبح اسمها آنذاك العاصمة إيليا، كانوا يمارسون طقوسهم الدينية علناً، وبالتالي فقد كانت لهم مذابحهم (معابدهم) المقدسة لممارسة عبادتهم. وحتى مع أنه لم يتحْ لهم امتلاك الموضع الذي «صُلب عليه المسيح» ومكان قبره، وبيت لحم، حيث يمكنهم إقامة طقوسهم الدينية، إلا أنه لا يتصور من أن تذكر هذه الأماكن المقدسة كان يمكن أن تُمحى من ذاكرتهم. بل وضعت في هذه الأماكن تماثيل زائفة لتشير إليها حينما يبدأ ويتم إصلاح العالم. ولا حتى الوثنيون أنفسهم كانوا يتوقعون من أن معبد فينوس، الذي أُقيم على قمة الجبل الذي «صُلب عليه المسيح» يمكن أن يمنع المسيحيين من زيارة ذلك الجبل المقدس، مبتهجين من فكرةٍ، كما يعبر عن ذلك المؤرخ سوزومن عن ذلك، من أن الناصريين (أبناء الناصرة) عندما يتجمعون أو يحتشدون للعبادة هناك، فإنهم سيبدون بنظر العامة على أنهم يقدمون إعجابهم أو عبادتهم لابنة جوبيتر. فهذا برهان لافت وواضح من أن معرفة كاملة للأماكن المقدسة قد أبقي وحوفظ عليها من قِبَل كنيسة القدس في منتصف القرن الثاني للميلاد. وفي عصر لاحق، عندما تعرضوا للاضطهاد، ولم يسمح لهم ببناء أو إقامة مذابحهم عند «قبر المسيح»، أو الوصول إلى المكان الذي وُلد فيه المسيح، فإنه تمتعوا على الأقل بعزاء الحافظ على تذكر وإحياء الأحداث العظيمة المرتبطة بهذه الصروح المهمة في عقيدتهم، متوقعين بالوقت نفسه الاقتراب من تخريب أو محو تلك الخرافة التي اضطُهدوا طويلاً من أجلها.
منح تحول الإمبراطور الروماني قسطنطين للدين المسيحي قوة جديدة لهذه الأحداث الماضية المحلية للتاريخ الإنجيلي. فذلك الحاكم الشهير كتب إلى مكاريوس، أُسقف القدس حينذاك، لأن يقيم على قبر يسوع المسيح كنيسة عظيمة، في حين أن أمه، الإمبراطورة هيلينا، توجهت شخصياً إلى فلسطين لكي تقدم تأثيراً حقيقياً للحماس الذي قوى ونشط العرش، وللمساعدة في البحث عن بقايا وآثار مقدسة وجليلة للعصر الأول للإنجيل أو العهد الجديد. ويعزى إلى هذه الإمبراطورة الشهيرة إعادة المجد الديني لبعض الأماكن الدينية القيمة جداً. وهي لم تكتف بإقامة كنيسة رائعة على مكان قبر المسيح (كنيسة القيامة)، بل إنها أمرت أيضاً بأن يبنى صرحان مشابهان، واحد في المكان الذي وُلد فيه المسيح في بيت لحم (كنيسة المهد)، وكنيسة أخرى على جبل الزيتون، لتكون ذكرى أو تحيي ذكرى صعوده إلى السماء. وتدريجياً انتشرت الكنائس الصغيرة، والمذابح، ودور العبادة في كل الأمكنة المقدسة، وكتبت التعاليم والنواميس الدينية، وبذلك أُمنت للأبد من اعتمادها على الذاكرة الشخصية.