يجد المؤلف نفسه في إعطاء تقييم للأراضي المقدسة عند تفحص وتدقيق مواده سواء المقدمة باختيار تاريخ بسيط من جهة، أو وصف محلي فحسب من جهة أخرى؛ وستقرر ميزة كتابه بالطبع باختيار ما سيعمله في الطبعة الأولى أو الثانية لهذا الكتاب.
أنت هنا
قراءة كتاب فلسطين في العصور القديمة - الأراضي المقدسة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
لم يكن هناك شك بملاحظة التمييز ما بين «القضاة» و«الموظفين» المعينين من قبل المشرع اليهودي؛ ذلك أنه من الأثر البعيد للتعيين والتعليقات الغامضة للكُتّاب الأحبار، أصبح من الصعب جداً إلى حدٍّ كبير تحديد وتعريف حدود أداءاتهم الخاصة. ويؤكد الكاتب ميموندس أنه كان يوجد في كل مدينة، حيث يصل عدد الأسر مائة وعشرين أسرة، محكمة تتألف من ثلاثة وعشرين قاضياً، كانوا مخولين للفصل والحكم في كافة القضايا المدنية والجرمية. فهذه بدون شك الهيئة نفسها التي ذكرت من قِبَل يوسيفوس في الكتاب الرابع لآثاراته ووصفت من قِبَله على أنها كانت مؤلفة من سبعة قضاة وأربعة عشر مساعداً لهم، يختارون من بين القبائل اللاوية اليهودية، وبالنسبة لهؤلاء، ومعهم الرئيس ومساعده أو نائبه؛ يشكلون العدد المعين بالضبط وهو ثلاثة وعشرون يعينون بواسطة أو من قِبَل الكُتّاب الأهليين. وفي البلدات الأصغر حجماً فإن إدارة القانون خولت لثلاثة قضاة كانت سلطتهم تمتد لتشمل الفصل والحكم في كافة القضايا والمسائل التي تتعلق بالدين، السرقة، حقوق الوراثة إعادة الملكية إلى المالك الشرعي، والتعويض. ومع أن هؤلاء القضاة لم يكن بإمكانهم الحكم بإنزال عقوبة قصوى، إلا أنه كانت لديهم سلطة للحكم في الاعتداءات والأضرار الثانوية وإنزال العقوبة والغرامات وفقاً لطبيعة الجنحة ومدى أو مقدار الأذى الحاصل.
بالنسبة للقسم الأول من هذه المؤسسات القضائية، كانت توجد هناك اثنتان في القدس، حتى خلال الفترة التي تولت فيها «السانهدريم» السلطة العليا على أرواح ومقدرات أبناء جلدتهم، واحدة كانت توجد عند بوابة «شوسان»، والأخرى عند بوابة «نيكانور». فالمكان الذي كان يعقد فيه هؤلاء القضاة جلساتهم، كما يشير الكاردينال فلوري، هو عند بوابة المدينة، ذلك أن جميع الإسرائيليين، آنذاك كانوا من المزارعين، الذين يذهبون إلى أعمالهم في الصباح ولا يعودون حتى المساء، لذلك فقد كانت بوابة المدينة المكان الذي غالباً ما يلتقون فيه؛ ولا يجب أن نستغرب إذا وجدنا هناك الناس العاملين في الحقول والذين كانوا يسكنون في البلدات. فهذه لم تكن مدناً مثل عواصمنا أو مدننا الريفية، والتي كان من الصعب أن توجد أو تحيا من دون أن تموَّن وتزوَّد بروابط من عشرين أو ثلاثين من القرى المحيطة بأرضها. فكانت توجد هناك مساكن ومستوطنات للعديد من العُمّال والتي كانت ضرورية لاستصلاح وزراعة الحقول القريبة جداً منها، لذلك فالريف كان مزدحماً جداً بالسكان، كما أن البلدات كانت موزعة بكثافة.
ولسبب مشابه، ما بين الإغريق والرومان، فإن مكان اللقاء أو الاجتماع بالنسبة لكافة أمور العمل كان في السوق أو المنتدى، لأنهم جميعهم كانوا تجاراً. وكان من بين العبرانيين، قضاتهم الذين يأخذون مقاعدهم مباشرة بعد صلاة الصبح ويواصلون عملهم لغاية نهاية ست ساعات، أو عند الساعة الثانية عشر ظهراً. ومع أن فصلهم أو أحكامهم لم تكن في قضايا كبيرة أو رئيسة، إلا أنهم استمروا ليقدروا من قِبَل أبناء جنسهم لوقت طويل، حتى بعد أن سويت القدس بالأرض.
بمساعدة ظروف استثنائية كما بُيِّن للتو، فقد يكون القارئ قادراً على تشكيل فكرة للظروف المدنية والسياسية للعبرانيين القدماء. فقد تمتعوا بأقصى درجة من الحرية والتي كانت مترابطة مع أهداف مجتمع منظم، لا يعترف سوى بسلطة القوانين المدارة بوساطة شيوخ قبائلهم ورؤساء أسرهم. وأيضاً فإن المساواة في ملكياتهم وتشابه مهنهم قد منع نشوء تلك التمييزات في حياتهم الاجتماعية، والتي مهما تكن في استخداماتهم في الأمم الأقدم، تعتبر متعارضة بواسطة كافة عادات شعب كان همه الوحيد مكرساً لرعاية حقولهم وسلامة قطعانهم ومواشيهم. فشكل الحكومة التي يمكن أن تلائم مثل هذا التوزيع للثروة والعمل هي بلا شك تلك التي أنشئت من قِبَل النبي موسى على أساس الحكم الهرمي القديم. بيد أن هذا النموذج، الذي كان ملائماً جداً في المرحلة القديمة جداً للوجود الاجتماعي، قد تغير إلى حدٍّ بعيد بزيادة سلطة وذكاء الشعب، لغاية، كما حدث تجاه نهاية إدارة أو حكم صموئيل، ما جعل الرأي العام يفرض نفسه ويُسمع، موصياً بنبذ الأفكار والمفاهيم القديمة. وهكذا نجد، من خلال تقدم العرق البشري بأن السلطة البسيطة لرئيس الأسرة تمر من خلال أنواع من حكومات القلة إلى الديمقراطية العملية، وتنتهي في فترة ليست بطويلة جداً في تسمية أو ترشيح وراثة مطلقة، أو حكم مطلق.
إن الفترة التي نتأمل الآن فيها المجتمع العبراني تعتبر مثيرة جداً للاهتمام عندما يستقر الرعاة المتجولون في أرض زراعية ثابتة ويصبحون فلاحين. فذرية كل من إبراهيم، إسحاق، ويعقوب الذين كانوا هم أنفسهم زعماء رعويين، بَدَوْا على أنهم قد أبقوا وحافظوا بميل مصمم على ذلك النموذج القديم للحياة، حتى أن موسى، وبعد أن أحضر القبائل الاثنتي عشرة ضمن رؤية أرض الميعاد، وجد من الضروري لأن يغرس أُسر كل من روبين، جاد، ومناسة إلى حد بعيد ليتيح لهم الخيار بالاستيطان على ذلك الجزء من نهر الأردن، حيث يمكنهم تكريس أنفسهم للإبقاء على رعي القطعان. والاستفادة من سلوك وتصرف القبائل الأخرى أيضاً، الذين لم يظهروا أدنى معارضة لتقسيم الأرض والدخول في تقسيمات عديدة، فيستنتج من هذا، مع احتمال بارز، من أنهم قد فضلوا أيضاً العادات الغريبة الشاذة التي تختلف عن عادات أسلافهم وأجدادهم على مهن وحِرَف مفيدة أعدها وهيأها لهم مشرعهم الأكبر بين حقول الذرة وبساتين الكرمة والزيتون.
من بين العرب، حتى في الوقت الحاضر، من يعتقد بأن الحياة الرعوية تعتبر مهنة نبيلة أكثر من التي تؤدي إلى الإقامة والسكن في المدن أو حتى في القرى. فهم يعتقدون بأنها حياة ملائمة أكثر للحرية، لأن الرجل، الذي يجول بقطعانه في الصحراء كلها سيكون أقل احتمالاً لأن يخضع للاضطهاد من الناس الذين يتقيدون ببيوتهم وأراضيهم. فهذا النمط من التفكير موغلٌ في القِدَم في الأجزاء الشرقية من العالم. فالمؤرخ اليوناني القديم ديودوروس الصقلي، عندما تحدث عن الأنباط، أفاد بأنهم بقوانينهم كانوا يحرمون الزراعة، وشرب الخمر، وبناء البيوت، وكل انتهاك لهذه القوانين يكون مرتكبه عرضة للمعاقبة بالموت. فهم اعتقدوا بقاعدة منفردة تماماً من أن أولئك الذين يمتلكون مثل هذه الأشياء سيكونون عرضة للحكم المستبد بسهولة؛ وعلى هذا الأساس فإنهم واصلوا، كما يقول المؤرخ ديودوروس، بقطع واجتياز الصحراء، لرعي قطعانهم، التي كانت تتألف غالباً من الإبل ومن الخِراف جزئياً.
فالحقيقة المبينة الآن تتلقى تأكيداً كبيراً من ملاحظة وردت في كتاب النبي إرميا يحترم فيه «الركابيين» القدماء، الذين يعتقد بأنهم قد أُزيلوا وأُبعدوا عن الجزيرة العربية إلى فلسطين لعدة عصور، لأنهم أبقوا على طاعة مقدسة لأوامر أسلافهم؛ رافضين بناء البيوت، وزراعة الأرض، أو زراعة الكرمة، أو شرب الخمر، بل إنهم فضلوا السكن في الخيام طوال جميع أجيالهم. فيما يتعلق بهذه النقاط، فإن العبرانيين في العصر القديم الذي نبحث فيه الآن، يبدو أنهم قد تمتعوا بأفكار عاطفية لا تختلف كثيراً عن تلك التي كانت للعرب، من السهول الرملية التي نشؤوا منها. فحياة الرعي المتنقل كان له صلة وثيقة بعادات قطاع الطرق، والقارئ المتنبه للتاريخ القديم للإسرائيليين سيتذكر أمثلة عديدة التي قدم من خلالها المنحدرون من نسل إسحاق برهاناً وافياً لعلاقتهم بذرية إسماعيل. فشخصية «أبيميلخ»، ابن جدعون، على سبيل المثال، لا يمكن أن تعتبر في أية حقيقة أخرى أكثر من شخصية قبطان سلاّب ونهّاب. ورفض رجال شيشيم، الذين استأجرهم ليتبعوه، إطاعة أوامره، حتى عندما أضاف القتل للسرقة. وبالطريقة نفسها، أصبح «يفتاح»، عندما طرد من قِبَل أشقائه، رئيساً لعصابة مشابهة في أرض «طوب». بيد أن شيوخ «جلعاد» لم يعتبروا ابن بلدهم الشجاع أقل جدارة واستحقاقاً من أن يتولى شؤونهم، وأن يكون رئيساً لجميع سكان أرضهم - وهو شرف أو مقام رفيع تردد حتى في قبوله، عند مقارنته بمرتبة وتعويضات الوضع الذي طلبوا منه التخلي عنه.