يجد المؤلف نفسه في إعطاء تقييم للأراضي المقدسة عند تفحص وتدقيق مواده سواء المقدمة باختيار تاريخ بسيط من جهة، أو وصف محلي فحسب من جهة أخرى؛ وستقرر ميزة كتابه بالطبع باختيار ما سيعمله في الطبعة الأولى أو الثانية لهذا الكتاب.
أنت هنا
قراءة كتاب فلسطين في العصور القديمة - الأراضي المقدسة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
بيد أن السياسة المرسخة من قِبَل المشرع العبراني لم تكن مقتصرة على دستور وحكومة القبائل المنفصلة. فقد امتدت أيضاً إلى أنظمة الرفاه العام للجميع، كمملكة واحدة تحت توجيه واحد من يهوه (الرب)، شريطة أنه يجب أن تكون كافة المناسبات الكبيرة لها وسائل موحدة بسهولة في مجالسهم، وتوحيد قوتهم. حتى خلال الفترة التي كانت أقل تنظيماً ونظاماً التي تبعت مباشرة استيطان العبرانيين في الأرض التي حلوا بها، فإننا نجد آثاراً لمثل هذه الحكومة العامة؛ ومجلس شيوخ، الذي كان مرشداً لإدارة الشؤون في كافة الأحول الصعبة والخطرة؛ وقاضياً، استثمر بدرجة عالية سلطة تنفيذية كأول قاضٍ للرابطة اليهودية، وأخيراً، الصوت المرشد لرجال الدين والحكام الذي بدا اتفاقهم ضرورياً في جميع الأوقات لمنح نشاط وتأثير لقرارات قادتهم. ويمكن أن نضيف إلى مقومات حكومتهم القديمة هذه وحي (الرب)، الذي بدونه، كما كشف النقاب عنه كل من يوريم وثوميم، لا يمكن أن يُتخذ أي قرار مهم من قِبَل المجلس أو القاضي.
وقد لوحظ تماماً، بالوقت نفسه، أنه مع امتداد السلطة التي يمكن أن تمارس من قِبَل المحكمة العليا، كم كانت سلطة القاضي أو الحاكم العسكري بين العبرانيين بحيث ماثلت تلك التي للديكتاتور الروماني، إلا أن امتياز صنع القوانين لم يكن في أي فترة يعهد لأي نظام في الدولة اليهودية. فما داموا كانوا يحكمون بواسطة حكومة دينية كهنوتية، فقد أُبقي على هذا الامتياز للرئيس الإلهي للقبائل.
كان من رأي الرجال المطلعين، أن مجلس السبعين، الذي أُنشئ من قِبَل موسى خلال تيه البرية، كان مجلساً مؤقتاً، ولم يستمر بعد أن استوطن الإسرائيليون في أرض كنعان. والتقليد القومي الوحيد الذي يمكن أن نكتشفه من أي أثر بالتالي لذلك الحدث هو المناسب لأمراء القبائل ورؤساء الأسر للتعامل مع الشؤون العامة ذات الأهمية الكبيرة. وهكذا، في قضية الحرب ضد قبيلة بنيامين، التي ذكرت سابقاً، فقد أُبلغنا بأن رؤساء كافة القبائل العبرانية قد حضروا الاجتماع التي عُقد لهذا الغرض. في تلك المناسبة البارزة، فقد كانت مصالح وشخصية الكمنولث اليهودي برمته على المحك؛ لذلك السبب فقد جمع زعماء القبائل أنفسهم سوية على رأس أقربائهم وأتباعهم - حتى أنه تجمع حوالي أربعمائة ألف رجل يحملون السلاح - لكي يستشيروا بعضهم البعض، وليتخذوا إجراءات مصيرية تكون ملائمة لإنزال العقاب بالأعمال الشنيعة التي ارتُكبت في حينه (منطقة قبيلة بنيامين).
خلال الفترة التي يشير إليها هذا الجزء من سردنا، فإن السلطة العليا كانت تمارس من فترة لأخرى من قِبَل القضاة - وهو نظام قضائي لا يماثله شيء موجود في أي بلد آخر. فالقرطاجيون، في الحقيقة، كان لديهم طبقة من الحكام اشتقت من المصدر الشرقي نفسه، مما يبدو لإنشاء التشابه نفسه في إدارتهم كالذي كان لخلفاء يشوع العبرانيين. إلا أنه وُجد من مقارنة سلطتهم، سواء في الجوهر أو في الأغراض التي تكون ثانوية، أنَّ كلاًّ من القضاة العبرانيين والقرطاجيين لم يكن لديهم سوى شيء ضئيل مشترك.
ولم نجد أيضاً أي تشابه جزئي قريب جداً في مهام وواجبات حاكم إغريقي أو حاكم روماني، فهؤلاء كانوا قضاة عاديين، ينتخبون بشكل دوري؛ بينما لم يكن القاضي يتولى السلطة أبداً ما عدا ما يتعلق بمقتضيات الأمور العامة التي تتطلب مساعدة مواهب غير عادية، أو وزناً أكبر لتعيين خارق. وعلى هذا الأساس، فقد كان القائد العبراني يشبه الديكتاتور الروماني، الذي يصبح، عندما تكون الجمهورية في خطر، مؤتمناً ومعهوداً إليه بسلطة غير محدودة تقريباً، وسلطة قضائية تمتد لتشمل حياة وجميع مقدرات أبناء بلده تقريباً. إلا أنه يوجد هناك شيء معين يختلف في هذا التشابه. فالديكتاتور يتخلى عن مركزه حالما تمر الأزمة التي دعي من أجلها؛ ولا تعاد له هذه السلطة المطلقة ثانية مهما كانت الظروف ولو لوقت محدود. في حين أن القاضي ، من جهة أخرى، يبقى يمارس مهامه وسلطته العليا خلال حياته كلها؛ ولذلك فغالباً ما يوصف من قِبَل مؤرخ ديني على أنه يترأس لنهاية أيامه قبائل إسرائيل، ما بين السلام والأمن التي تساعد فيها مهارته العسكرية بمباركة من السماء.
يقول الكاتب دوبين، بأن القضاة العبرانيين لم يكونوا قضاة عاديين، بل لديهم سلطة مقدسة مطلقة، منحت إليهم من قبل الإسرائيليين، سواء بسبب الاضطهادات التي تعرضوا لها، أو بسبب حكمتهم وعدلهم.
فقد كانوا يحكمون وفقاً لقانون يهوه (الرب)، ويقودون جيوشهم، ويبرمون المعاهدات مع الأمراء المجاورين، ويعلنون الحرب والسلم، ويديرون العدل. فهم كانوا يختلفون عن الملوك: 1- في أنهم لم ينشؤوا نتيجة لانتخاب أو خلافة، وإنما وصلوا للسلطة بطريقة غير عادية 2- أنهم رفضوا أن يمنحوا لقب وخاصية الملوك 3- أنهم لم يفرضوا أية ضرائب على الناس من أجل بقاء الحكومة 4- أن طريقتهم في الحياة كانت بعيدة عن الفخامة والأبهة والتفاخر 5- في أنهم لم يضعوا قوانين جديدة، وإنما حكموا وفقاً للأحكام الموجودة في كتب وقوانين النبي موسى 6- في أن الطاعة لهم من قِبَل الناس كانت طوعية ولم تكن مُجبرة، كونهم لم يكونوا على الأغلب سوى حكام وقضاة لمدن «حرة».
إلا أن الأقلَّ صعوبةً تقرير ما كان القضاة يقومون به لتحقيق دقة الأجزاء المختلفة لوظيفتهم المعقدة. ففي الحرب، كانوا يقودون الجيوش العبرانية لمواجهة أعدائهم. وفي السلم، فمن المحتمل أنهم كانوا يترأسون جلسات محاكم قضائية التي يمكن أن تكون ضرورية لتقرير نقاط معقدة للقوانين، أو لسماع حجج الاستئنافات من قرارات محاكم أدنى درجة. وأولئك الذين كانوا يذهبون إلى «ديبوراه» من أجل التقاضي، يفترض، أنهم كانوا يقدمون قضاياهم أمام محكمة البداية هناك؛ فربما كانت قضاياهم تتطلب معرفة أكبر لتمنح رضا للمتقاضين، ذلك أن قاضي الجمهورية، الذي كان يساعد بواسطة عضوين معينين من الكهنوت، كان يدعى للنطق بالحكم النهائي.
ويخص هذا الجزء من الموضوع ذكر الشرط القانوني الذي وضع من قِبَل النبي موسى ورسخ بواسطة يشوع بالنسبة للإدارة القانونية للعدل في جميع أنحاء الأرض. وللغرض نفسه يربط المؤرخ يوسيفوس، في تقديره لآخر خطبة ألقاها النبي موسى بالشعب اليهودي، بأن يقوم المشرع الأكبر بإعطاء أوامر لتعيين سبعة قضاة في كل مدينة؛ لرجال يتميزون بحسن السيرة والسلوك ونزاهة المشاعر. ويضيف يوسيفوس «بأن يُتاح لهؤلاء الذين يحكمون بين الناس تقرير الأمور حسبما يعتقدون بأنه صحيح، ما لم يظهر أي واحد منهم بأنه يتلقى رشاوى تؤدي لفساد وانحراف بالعدل، أو يمكن أن يُتَّهم بأي تهمة ضده».