أنت هنا

قراءة كتاب فلسطين في العصور القديمة - الأراضي المقدسة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
فلسطين في العصور القديمة - الأراضي المقدسة

فلسطين في العصور القديمة - الأراضي المقدسة

يجد المؤلف نفسه في إعطاء تقييم للأراضي المقدسة عند تفحص وتدقيق مواده سواء المقدمة باختيار تاريخ بسيط من جهة، أو وصف محلي فحسب من جهة أخرى؛ وستقرر ميزة كتابه بالطبع باختيار ما سيعمله في الطبعة الأولى أو الثانية لهذا الكتاب.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

منحت هذه الاعتبارات إمكانية كبيرة لحدس أولئك الأشخاص الأتقياء الذين ساعدوا في القرن الرابع الميلادي والدة الإمبراطور قسطنطين في تحديد مواقع الأماكن المقدسة. ومنذ ذلك العصر ولغاية الوقت الحاضر فإن تكريس المسيحيين، وبمساعدة المسلمين، قد أمنوا بشكل وافٍ التذكر والحفاظ على الأماكن والأحداث المرتبطين بها. إلا أنه لا يوجد وقت محدد لانطباع التبجيل العميق للتفحص الفعلي لهذه الأماكن المهمة التي شهدت أحداثاً مذهلة سجلت في الكتاب المقدس. أو إذا ما كان هناك وجود لأي سبب يمكن أن يحتوي بفعالية مثل هذه المشاعر الطبيعية الجديرة بالثناء، فإنه يكون تدويناً مطولاً لوصف مفصل وخيالي غالباً ما يوجد لمرافقة إظهار بقايا الآثار المقدسة. فالرحالة المسيحي يكون سعيداً بالفعل عندما يحصل على النظرة الأولى لجبل ومنطقة الكرمل، وجبل «تابور»، ولجبل الزيتون، وينشرح قلبه للذكريات التاريخية في اللحظة التي يرى فيها أمام ناظريه نهر الأردن، وبحيرة طبرية، وحتى مياه البحر الميت؛ إلا أنه لا تقواه ولا إيمانه يكون ثابتاً عندما يقدم له جزء من الصليب الذي «علق عليه يسوع، والمسامير التي دقت فيها يداه وقدماه، والرداء الكتاني الذي لف فيه جسده، والحجر أو شاهدة القبر الذي دفنت فيه جثته»، وأيضاً المكان الذي تواجد فيه الملاك الخادم في صباح يوم البعث. ويتحول الشك لهذه الآثار الباقية المشكوك فيها بعد أن تُدقق إلى غثيان فعلي، عندما يعرض حراس المغارة في بيت لحم الماء الذي غُسل فيه المسيح عندما كان طفلاً، والحليب الذي رضعه من أمه العذراء المباركة، والثياب التي كان يُلف بها عندما كان طفلاً صغيراً، والمهد الذي وُضع فيه، وغيرها من الأشياء المعينة التي ليست أقل شأناً وليست بعيدة الاحتمال.
بيد أن مثل هذه الأشياء، التي هي نتاج عدة عصور من السذاجة والإهمال والتي لم تنقرض وتتلاشَ مادياً هي نتيجة لقوة انطباع نجمت بواسطة مشاهد لا يمكن أن نغيرها بالأيدي، ومن الصعب أن يمكن لأي وصف إخفاؤها.
فالجبال المحيطة بالقدس لا زالت قائمة كما كانت قائمة منذ أيام داود وسليمان. والندى لا يزال يتساقط على جبل الشيخ؛ وأشجار الأرز تنمو على جبال لبنان، و«كيشون» ذلك النهر القديم لا زال جدوله ينساب من جبل «تابور» كما كان في القِدَم. وبحر الجليل (بحيرة طبرية) لا تزال تمثل انسياباتها الطبيعية؛ وأشجار التين لا زالت تنمو على جوانب الطرق، وأشجار القميز تنشر أغصانها، ولا زالت شجيرات الكرمة وأشجار الزيتون تتسلق جوانب الجبال. والخراب الذي كان يغطي المدن السهلية ليس لافتاً في الوقت الحالي أكثر مما كان في الزمن الغابر أو في أيام النبي موسى، مع سجل تاريخي وهو أنه وقع عليها حساب إلهي، ومياه نهر الأردن الغامرة ليست أقل حجماً في كمياتها مما كانت عليه في القدم؛ والشخص الذي ينزل من القدس إلى أريحا لا زال يتعرض لخطر كبير جداً من الوقوع بين أيدي اللصوص. ويوجد هناك، في الحقيقة، في مشهد فلسطين وعاداتها وتقاليدها أبدية أو ديمومة تتلائم جيداً ما يفيد لسجلاتها التاريخية دوماً، مما يمكننا من تحديد جاهزية قصوى لتصور محلي لكل تحول كبير.
وقد اختلفت مساحة هذه البلاد البارزة في أوقات أو أزمنة مختلفة، وفقاً لطبيعة الحكومة التي إما رغبت بها أو أُجبرت على الاعتراف بها. فعندما احتلت قديماً من قِبَل الإسرائيليين القدماء، عندما كانت تدعى بأرض كنعان، فقد كانت تقع أو تنحصر ما بين سواحل البحر الأبيض المتوسط والضفة الغربية لنهر الأردن؛ ولم يزد عرضها عن خمسين ميلاً، في حين أن طولها كان يشكل ثلاثة أضعاف ذلك. وفي عصر لاحق، امتدت حدود المملكة (فلسطين) آنذاك إلى نهر الفرات وجبال أورانتوس، من جهة، ومن جهة أخرى امتدت إلى أقصى إيدوم وموآب، في عهد الملك (النبي) داود وخلفه سليمان. وكان سكانها مختلفي الأعراق، كما يمكن أن يتوقع. وصحيح أنه لا يوجد شيء معين في التاريخ القديم يكون عرضة لشك موجود أو مؤسس بشكل أفضل من البيانات الرقمية التي تحترم وتقدر الأمم والجيوش؛ فبالنسبة للفخر والخوف يكون لهما دورٌ لا يساهم في مبالغة قليلة فحسب في البلدان المتنافسة، وإنما أيضاً في عدد الأشخاص القادرين على المشاركة في ميدان المعركة. واعتماداً على الأسس العادية للإحصاء فلا بد أن نستنتج عدد المحاربين الذين قادهم النبي موسى عبر الصحراء، وعندما عبروا نهر الأردن لم يقلوا عن مليوني محارب، بينما نستنتج من حقائق مسجلة في كتاب صموئيل من أن العدد الذي كان تحت إمرة القائد يوآب كان خمسة ملايين ونصف شخص.
إن الوضع الحالي لفلسطين، تحت حكم إدارته حيث إن كل شيء يتسم بالركود ولا يوجد شيء مُجدد، فلا يمكن أن يعطي معياراً كاملاً لدقة مثل هذه البيانات. وقد أشار مراقبون مستعجلون في الحقيقة من أن المناطق الجبلية الحالية من الأنهار الكبيرة لا يمكنها حتى لو كانت تحت إدارة ماهرة جداً من أن تؤمن أو تزود السكان بأغذية كثيرة. بيد أن هذا الاستنتاج المتعجل كان متعارضاً بقوة مع تقييمات وأحكام كفوءة جداً، التي بذلت جهداً عظيماً لتقدير إنتاج الأرض بفعل تأثير الشمس على خصوبتها والتي يمكن أن تعتبر استوائية تقريباً، وعملية الري منتظمة بشكل جيد، وعرف السوريون كيفية ممارستها بنجاح كبير جداً. ولا بد أن يُعترف من أن أرض كنعان لا يمكن أن تقارن بمصر فيما يتعلق بإنتاج المحاصيل. فلا يوجد هنا النيل الذي يمكن أن يروي وتوزع مياهه على الوديان والسهول إلا أنه لا زال هناك سبب مقنع من أن النبي موسى وصف أرض فلسطين على أنها «أرض جيدة، وأرض الجداول المائية والينابيع، وأعماقها تتفجر بالينابيع في الوديان والتلال؛ وأرض القمح والشعير، والكرمة، وأشجار التين والرمان، وأرض زيت الزيتون والعسل؛ والأرض التي يمكن أن يتواجد فيها الخبز من دون شح، فهي لا ينقصها أي شيء؛ وأرض حجارتها مثل الحديد، ويتواجد النحاس بكثرة في جبالها أينما حفر فيها».
لقد أكدت آخر تقارير الرحالة والمسافرين إلى هناك مدى دقة هذه الصورة التي ذكرت من قبل النبي موسى. فلا زالت هناك بالقرب من أريحا أشجار الزيتون البرية تحمل ثماراً من حجم كبير والتي تعطي زيتاً نقياً وصافياً جداً. وفي الأراضي الخاضعة للري، فإن هذه الحقول نفسها، وبعد أن تنتج محصول القمح في شهر أيار، فإنها تنتج محاصيل حبوب أخرى في الخريف. وتحمل العديد من الأشجار الأزهار والثمار باستمرار الوقت نفسه وفي جميع مراحلها. وتتدلى وتتحلق أغصان الكرمة على نباتات التوت الأسود التي زرعت في صفوف مستقيمة في حقول مفتوحة. وإذا ما بدت هذه الخضرة ذابلة خلال مواسم الحر الشديد، وخصوصاً في الجبال، فهي تكون متقطعة ومؤقتة في جميع الفصول، إلا أنه لا يعزى مثل هذا الوضع على السمة العامة للمناخ الحار تماماً وإنما أيضاً إلى حالة الفوضى التي يعيش في ظلها غالبية السكان الحاليين للبلاد.
وحتى في هذه الأيام، فإنه لا زالت هناك بعض البقايا الموجودة من الأسوار التي أقامها الفلاحون القدماء لدعم التربة على منحدرات الجبال؛ وأشكال الخزانات والأحواض التي كانوا يجمعون فيها مياه الأمطار؛ وآثار قنوات المياه التي كانت توزع فيها هذه المياه على الحقول. فهذه الأعمال خلقت خصوبة مذهلة تحت أشعة الشمس المتوهجة، حيث كان يتطلب رطوبة قليلة فقط لإحياء عالم خضرة. والتقديرات التي قدمت من قِبَل كُتّاب محليين فيما يتعلق بالجودة الإنتاجية الزراعية لمنطقة القدس لا تتعارض بأية درجة حتى بالمظهر الحالي للبلاد. فالحالة هي بالضبط نفسها الموجودة في بعض جزر الأرخبيل؛ فقطعة أرض تزرع هذه الأيام بالكاد يكفي محصولها مائة شخص بينما كانت في السابق توفر غذاءً لآلاف الأشخاص. فموسى  قد قال «إن أرض كنعان تزخر بالحليب والعسل». ولا زالت قطعان المواشي تجد لها المراعي الغنية، في حين أن النحل يعشعش في فجوات الصخور ويجعلها مخازن لعسله الشهي، والذي يُرى ويشاهد أحياناً متدفقاً أسفل على سطح الأرض.
إن وجهة النظر التي أُشير إليها سابقاً فيما يتعلق بخصوبة أرض فلسطين القديمة وجدت تأكيداً مسهباً من المؤرخين الرومان، والتي كانت بالنسبة لهم جزءاً من إمبراطوريتهم الممتدة الواسعة، ومعروفة لديهم بشكل حميم. خصوصاً المؤرخ تاسيتوس، الذي وصف خاصياتها الطبيعية بدقة قصوى، وبما أن أسلوبه وطريقته في الكتابة تبين - بدلاً من أن تخصص - قائمة إنتاجات، والدقة المؤكدة بآخر المشاهدات. ويقول: «إن أرضها خصبة وغنية، وجوها جاف، وتنتج البلاد جميع أنواع الفاكهة المعروفة في إيطاليا، إضافة إلى الأشجار العطرية والتمور».

الصفحات