كتاب "إبراهيم بن الأشتر "، كان الأشتر في صخب التداعيات الخطرة لخلافة الإمام، قائداً على مقدمة جيشه في البصرة وصفّين، ورجل المهمات الكبرى، ما شكّل إحراجاً لمعاوية، فأخذ يخطّط لاغتياله، حتى إذا تحقق ذلك اختلّت الجبهة العراقية ولم يعد ممكناً إعادة تشكيلها على
أنت هنا
قراءة كتاب إبراهيم بن الأشتر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مقدّمة
من التواريخ ما ذهلت عنه المرويات التي رصدت عموماً، الخبر السياسي، فلا ترى غير السلطة وما حولها، ثم أخذت تصبّ اهتمامها على «الفتن» التي انفتحت أبوابها ولم تُغلق، منذ تمرّد الأمصار على الخليفة الثالث واغتياله. ولم يكن ذلك أول حدث من نوعه في الإسلام، وربما الفتنة نسجت خيوطها الأولى من قبل، باغتيال الخليفة الثاني، ومن بعد اكتملت فصولاً بالخليفة الرابع. والأسباب ليست غامضة، وإن جرى توليفها أو تلفقيها، فهي وثيقة الصلة بأزمة الخلافة التي تعثّرت، نظاماً راسخاً، في أوّل الطريق. ومن السذاجة التسليم بما حبكته الروايات حول هذه المسألة، من دون البحث في خلفياتها، والوقوف على الجهة الكامنة وراءها، والتي ما انفكت تتربص بالسوانح، في دأبها على تطويع الإسلام لمصلحة نفوذها القديم، وهي بعد على الضفاف منه، وإنّما اكتفت به شعاراً لتسويغ طموحاتها في إطار «شرعية» مفتعلة، والمجتمع ـ الأمة، في تكوينه القبلي، لم يكن مُحصّناً من الإغواء، وبالتالي لم يكن صعباً أخذه إلى حيث يشاء المتربّصون.
كانت «الفتنة الكبرى» ـ المصطلح المتداول بعد اغتيال الخليفة عثمان ـ المنعطف الخطر الذي فجّر أزمة الخلافة، وبلغ ذروته في البيعة لعلي ومعها إرث ثقيل لم يكن ممكناً تجاوز تبعاته. فقد تورّط كبار الصحافة في الصراع السياسي، الذي جرّ إلى حروبٍ خاضها مُكرهاً الإمام، ولمّا يكن بعد قد استقرّ في الكوفة، أو أُتيحتْ له الفرصة لتنظيم إدارته، كذلك قواته العسكرية. فقد وجد نفسه في خضّم قبائل، شاركت وحدات قتالية في الفتوح، دون أن تكتنه من أهدافها سوى ما يعود إليها بالنفع من غنائم أو تملّك أرض.. ولم يكن في الوقت متّسع لترويضها في إطار تربوي عقائدي، وتوضيح رؤيتها باتجاه قضية ترسب في وعيها، ولا تنكفئ عن التضحية في سبيلها.
وكانت صفّين من هذا المنظور، حرب قبائل على جبهتي العراق والشام، مع الفارق أنّ القبائل في الأخيرة كانت مطواعة لمعاوية، قديمة العهد بالولاء له، بينما كانت على خلاف ذلك مع الإمام، ليس صعباً اختراقها وحتى هدر منجزاتها وهي على وشك الانتصار. فكان «التحكيم» وانشقاق الخوارج، من مظاهر ذلك الخلل في جبهة العراق، التي سرعان ما اختلّت بُنيتها، وذهبت سدىً خطبُ الإمام في تحريضها على الجهاد، لا سيما وأن ثقافتها الدينية، لم تؤهّلها لفهم أبعاده، فاستكانت إلى واقع مرير، عانت الكوفة تداعياته الكارثية فيما بعد.
جرى ذلك ولمّا يُحسم الصراع، حتى بعد اغتيال الإمام و«الصلح» مع خليفته، فقد ظلّت الكوفة في خطّ الممانعة، على الرغم من عمليات القمع والتصفية والنفي التي استهدفتها، على يد ولاة تمّ اختيارهم بدقّة لهذه المهمة، ولم يتقاعسوا عن أدائها بكفاءة عالية. وإذا كان حجر بن عدي الكندي قد تصدّر واجهة المعارضة، مؤسّساً حركة التشيع تيّاراً سياسياً جذرياً، فإن الأشتر (مالك بن الحارث النخعي) الذي سبقه إلى الشهادة يبقى رائداً في خياراته المبكِّرة، لصيقاً بالإمام، مُفعماً بفكره القيمي، فكان بدوره ممّن حفر عميقاً في تلك التجربة، حتى غدا من رموزها الأوائل. ولعل في سيرته ما يبهر، مناضلاً شجاعاً وقيادياً بارزاً، حيث شارك على هذا المستوى في معركة اليرموك، وفي فتوح العراق، قبل أن يستقرّ مع قبيلته في الكوفة بعد ركود العلميات العسكرية في عهد عثمان. ولم يستكن حينئذٍ لسياسة الاستئثار وانتهاك الأقارب حقوق المجاهدين الذين بسيوفهم فتحوا البلاد، فإذا هم مهمّشون، خاضعون لمشيئة ولاة متطفِّلين على الدور، وما زالت في نفوس بعضهم رواسب ممّا قبل الإسلام.
والخليفة آنذاك (عثمان) وقع في شرك أولئك المخضرمين، واستُدرج إلى الخروج من تاريخه، مناضلاً من روّاد المسلمين، ليصبح بتأثيرهم حاكماً مطلقاً، يستمد شرعيته من «الحقّ الإلهي»، متماهياً معه الولاة المستبدّون. وكان الأشتر أول من تصدّى لهذا النمط الاستعلائي من السلطة، ممثَّلاً بوالي الكوفة سعيد بن العاص، وذلك عبر حركة مسلحة يمكن اعتبارها إرهاصاً لما حدث بعد نحو عامين في المدينة من تمرّد عرب الأمصار المطالبين بالإصلاح. وقد سبق له أن نُفي مع رفاقه إلى الشام وسمع من معاوية كلاماً ينال من القبائل اليمنية، ويرفع من شأن قريش التي اصطفى الله منها «خير خلقه» واختصّها بالملك، وجعل الخلافة فيها، ما أثار حقداً ظل كامناً في ذات الأشتر الذي ربما كان وراء حركة الاعتراض في المدينة، أو محرِّضاً أساسياً عليها.
إبّان تلك الأزمة، تعرّف الأشتر علياً الذي ثناه عن الذهاب إلى «الفتنة»، فالتزم رأيه، مدركاً مخاوفه بأن سقوط عثمان، يعني سقوط الخلافة، بما يحمله ذلك من نتائج سلبية على الإسلام «فلم يشترك ـ كما يؤكد هوارت ـ في محاصرة عثمان وفي قتله». وتحقّقت بالتالي هواجس علي، فقد تناثر دم الخليفة على مصحفه، من دون أن يتحرك لنصرته، أكثر المستفيدين من عهده: مروان ومعاوية، كما تقاعس الصحابيان (طلحة والزبير) الطامحان إلى وراثته، فانكفآ متهيّبين هول الحدث، بينما علي لم ينج من الخيار الصعب، حين لم يجدوا منقذاً سواه.