رواية "انكسارات صبي"؛ ... بعد عشر سنوات مِنَ الانقطاع التام، لم يحتج إلى أكثر مِنْ خمس دقائق، وهي المدّة التي استغرقتها المكالمة ليفهم مِنْ حديث صديقه عن أولاده الثلاثة، كيف يأكلون ويشربون ويضحكون، أن ثمة متغيّرات دراماتيكية لا مكان له فيها.
أنت هنا
قراءة كتاب انكسارات صبي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
(1)
لم تأبه أمّه في ذاك اليوم الخريفي الجاف للتهديد الذي دأب في اللجوء إليه، كلما أراد أن يبتزّ منها عطايا صبي مدلَّل؛ يكره أكل اليخنة ولا يستطيب أياً مِنَ الأطعمة البيتية، وخصوصاً بعد أن استحدث «أبو سميح» زاوية في محله لبيع سندويشات دجاج وشاورما ومقانق وبطاطا مقلية. حتى إنها لم تلتفت إليه عندما خاطبها بالقول: «سأرمي نفسي عن السطح وأموت...، إنْ لم تعطيني نصف ليرة». كرّرها مرتين، قبل أن يُصدم بردّها وهي منشغلة عنه بذرّ البرغل فوق سقف بيت الحاجة «أم عارف»: «شو بعملّك... سنحزن ثلاثة أيام على الأكثر... ومِنْ ثم نكمل حياتنا بشكل عادي». بهذه الفجاجة قذفت الأم طفلها بحقيقة يصعب على رجل ناضج أن يبتلع مرارتها، ما لم تتغلَّف بعطف دين سمح كالذي يجنح إليه السواد الأعظم من الناس حتى يتقبلوا مأساتهم على أنها فرج وخلاص. غير أن هذا مطلب غبي مِنْ أمّ ليس لديها متسع مِنَ الوقت ولا مِنَ الطاقة لتهتمّ بغير إطعام عشرة أولاد؛ قدر أصغرهم أنْ يولد مصاباً بعاهة الظمأ العاطفي، ليس لأنّه حظي بمقدار مِنَ الغنج جعله يصدّق أنَّ إخوته يعيشون مِنْ أجله، فهذا سبب غير كافٍ لفهم اضطراباته النفسية التي تفاقمت أكثر في اللحظة التي قرّر والده سلخه من العائلة.
وقتذاك، لم يدرك موسى مغزى الظفر في النظرة التي رمقه بها أبوه، فور دخوله باب البيت، كما لم يعِ أنّ دفق عاطفة أمّه التي أغدقتها عليه، قبلات، وطبطبات مع ابتسامة مفعمة بالشوق المسبق إلى فقده، حالما سمعت زوجها يقول: «وافقوا على الصبي» مسألة تعنيه هو بالذات، وهي فاتحة تبدّل في مصير طفل ما زال في سنواته الخمس أصغر مِن أنْ يستوعب كيف لأم أنْ تنام قبل أن تطمئن إلى غفو ابنها.
كان لا يزال في منتهى البراءة عندما أجلسه والده في حجره توفيراً لنصف أجرة راكب، لأنه دون العشر سنوات.
بان على موسى خوف واضح من خلال تشنّج أصابع يديه المشدودتين على الممسك الحديدي للمقعد الخلفي، ومِن اتساع حدقتي عينيه اللتين راحتا تراقبان توالي المشاهد حالما انطلقت السيارة نحو بيروت بسرعة تفوق قدرته المحدودة بحدود عالم الضيعة على احتساب طول المسافة. وما أن تجاوزوا التلّة التي كان يخالها تشكل حداً فاصلاً عن بلد أخته المتزوجة في المكسيك، حتى أحسّ بوخز وحشة، وهذا ما أفسد على الصبي انبهاره بركوب السيارة. غرق في غمّه، ولم يعد يؤخذ بمشهد عدو أشجار السّرو إلى الوراء بوتيرة اصطفافها الإيقاعي على جانبي الطريق؛ رأى بيوتاً كثيرة، ودياناً وتلالاً وأشجاراً، لكنه لم يُدهش الدهشة التي أصابته حالما بان أمامه مدّ هائل من الزرقة التي تصل الأرض بالسماء. «هذا هو البحر». قالها أبوه وسكت ليمعن هو أيضاً النظر إلى ما شدّ رجلاً ريفياً، قلّما غادر ضيعته؛ فمشاويره النادرة إلى المدينة، لم تستنفد مِنَ البحر الشيء الذي يحيل مرآه إلى مشهد عادي.
بعد نصف ساعة من المسير، بان اخضرار بساتين الموز والليمون على امتداد سهل واسع أخضبته دلتا نهر الليطاني حيث هبطت بهم السيارة إلى متاهة طريق ضيّقة، شُقّت على الأرجح بدون تخطيط هندسي، فالإلتواءات الكثيرة في مساحة سهلية مسطحة، تبعث على الشك في وجود اعتبارات أخرى تتعلّق بحكم قضائي لمصلحة أحد المالكين الكبار القادرين على ليّ ذراع القانون لمنفعته الخاصة.
وما أن انحرفت مركبتهم نزولاً باتجاه المنحدر الأخير الذي يصلهم بالطريق الساحلي، حتى شعر موسى بالخوف مِنْ أن تنزلق السيارة وتهوي إلى قاع البحر، حتّى أنه استهجن كيف للناس أنْ تأمن السكنى في بيوت قريبة مِنْ هذه الزرقة الممتدة إلى حيث ثمّة مفاجآت أكيدة تنام في قعر هذا السكون المفزع. فكّر في التنين الأزرق والحيتان وأسماك القرش. تساءل عمن يستطيع منع مارد البحر مِنَ الخروج إلى اليابسة وشفط كل ما عليها. ما لبث أن هدأ، حيث راقه أن يتأمل «فقش» الموج على طول الطريق الساحلي.
وما أن توقفت السيارة أمام مبنى رمادي مؤلف مِنْ أربعة طوابق، حتى أنزل السائق حقيبتين مملوءتين بحوائج (أغراض) صبي، سيُترك في عهدة مربية غليظة. جرّته مِنْ يده بجفاء مضطرّة إلى القيام بواجب موظفة لا تحب عملها، والأصحّ، لا تحب نفسها. لقد شعر بانقباض حاد حالما أمسكته براحة يدها المكتنزة ورماً اقترن في تصوّره بقبضة أبي مرعي، جزّار الضيعة. كانت مثله سمينة. ليس في وجهها الخاوي من المشاعر ما يدل على أنها تملك ذرّة إحساس بالحب والفرح، لعلّها تعرّضت أو عرّضت نفسها لقسوة جعلتها لا تفهم معنى العطف على الآخرين.ينم من نظراتها بؤس وميل جامح إلى الثأر مِنْ قدر ولادتها أنثى بشعة.
وما أن غابت عن نظر أبيه حتّى تركته يمشي وراءها وهو ينظر إلى مريولها الأبيض الطويل، الزيّ المعتمد الذي فرضته إدارة المؤسسة على العاملات اللواتي عليهنّ واجب إخفاء إغواءات أجسادهن أمام العاملين الذكور، لكن «هدية» وهذا ما كان اسمها، اتخذته سبباً لستر نتوءات جسمها الممسوخ على هيئة فيل، غير أنه ليس فيه شيء مِنْ وداعة الفيلة والدببة. فسمنتها تبعث على الظن بأنك أمام غولة كريهة، فالحجر أقرب منها إلى الانفعال مع انكسار ولد مريض أو طفل مقطوع. بلع موسى غصته وصار مخنوقاً منذ تلك اللحظة بأعنف صدمة في حياته، حالما أودعوه سجن مؤسسة رعائية، ليس فيها رحمة ولا شفقة، وفي أحسن الأحوال تُجبر الأولاد على التقيد بمواقيت الأكل والشرب والنوم، لكنها تعجز بالطبع عن تقديم ما هو أهم لطفل يحتاج أكثر إلى العاطفة والحنين. كان موسى متحفزاً لالتقاط ما يواسي إحساسه الرهيب بالخوف مِنْ مكان غريب وموحش، عندما دشنت «هدية» سمعه بالأمر التالي «روح نقبر قعود مع الأولاد حتى يجي دورك يا غبي». منذ تلك اللحظة أظلمت الدنيا في عينيه، وصارت بلون هذه المرأة وفظاظتها.