كتاب " العلم وشروط النهضة "، تأليف سمير أبو زيد ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2008 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب العلم وشروط النهضة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

العلم وشروط النهضة
(ج) التعميم من واقع الخبرة (الاستقراء)
القيمة الأساسية التي يتميز بها العلم عن باقي النشاطات الإنسانية هي القدرة على التنبؤ بالظواهر العلمية. فالهدف الأساسي من ملاحظة ظاهرة معينة هو تعيين الظروف التي تؤدي إلى إنتاجها أو ظهورها. فملاحظة كسوف الشمس مثلا في تواريخ معينة يؤدي إلى معرفة أسباب هذا الكسوف ثم القدرة على التنبؤ بتاريخ الكسوف القادم.
والقدرة على التنبؤ تتضمن فرضية أساسية هي أن الظاهرة التي تتكرر في ظروف معينة يمكن تحويلها إلى قاعدة عامة. ولأن القسم الأغلب من الظواهر تكون الظروف الطبيعية المصاحبة له معقدة، وتكون إمكانية إعادة إنتاجها في نفس الظروف محدودة، ولأن أغلب الظواهر الطبيعية تكون معقدة وممثلة عبر علاقات رياضية. لذلك بدلا من إجراء التجارب في كل الظروف الممكنة يضطر العلماء إلى "افتراض" أن نفس هذه العلاقات سوف تكون ثابتة في كل الظروف.
فمثلا تمثل رياضيا ظاهرة انتقال السوائل، كما في انتقال المياه خلال الأنابيب، بواسطة معادلة تفاضلية تسمى معادلة لابلاس. وذلك على الرغم من أن الرصد الفعلي للظاهرة لا يعطي معادلات، وإنما يعطي قيما معينة في حالات ثابتة وفي ظروف محددة. ولكن حتى يتمكن العلماء من التنبؤ بالظاهرة في المستقبل يتم تحويل القياسات التي تعطى عادة في شكل جدول إلى معادلة تفاضلية يمكن استخدامها في التنبؤ بما سوف يحدث في الطبيعة بدون إعادة إجراء التجارب.
وعملية تحويل القياسات المحدودة إلى معادلة تفاضلية يمكنها التنبؤ بالظاهرة هي في جوهرها عملية "تعميم"، أو انتقال من عدد محدود من النتائج إلى عدد لا محدود. وعملية التعميم هذه تسمى عملية "الاستقراء". فبواسطة الاستقراء يمكننا التنبؤ مثلا بالطول الذي يتمدد به قضيب من الحديد إذا تم تسخينه إلى درجة حرارة معينة. فإذا علمنا أنه عند درجة حرارة 10 درجات مثلا يتمدد 1 سم، وعند 20 درجة يتمدد 2سم. إذا علمنا ذلك يمكننا التنبؤ بأن نفس القضيب إذا تم تسخينه إلى 12 درجة سوف يتمدد بقدر 1.2 سم.
وعملية الاستقراء تعبر عن الأسلوب أو المنهج الأساسي الذي يعمل به العلم، لذلك يذكر عادة أن المنهج العلمي هو منهج الاستقراء. وذلك لأن الاستقراء يبدأ من الوقائع العلمية ذاتها وينتهي عند إنشاء العلاقات بين المتغيرات الطبيعية. وذلك على عكس المناهج التصورية التي تبدأ من تصورات ذهنية معينة ثم تحاول إثباتها في الطبيعة(8).
فعلى سبيل المثال كان التصور الأرسطي (نسبة إلى ارسطو) عن حركة الكواكب أنها حركة دائرية. وكان ذلك مبنيا على تصور ذهني هو أن الدائرة هي أكمل الأشكال الهندسية. ولكن عندما استخدم التلسكوب في ملاحظة الأفلاك وتم تطبيق نظريات نيوتن أمكن التوصل إلى الحركة الحقيقية للكواكب والتي هي في حقيقتها حركة قطع مكافئ. وكانت هذه النتيجة نتيجة علمية لأنها تبدأ من الوقائع وتعتمد منهج الاستقراء الذي يصعد من الوقائع إلى التصور الكلي والذي هو القاعدة أو النظرية.
وعلى الرغم من أن منهج الاستقراء هو المنهج الأساسي في العلم. إلا أنه مع تقدم العلم ظهرت مشكلات كثيرة في تفسير الاستقراء وظهرت تصورات عديدة بديلة لازالت محل جدل حتى الآن، وهو ما سوف نناقشه في الأجزاء التالية من هذا العمل. ولكن يمكن القول، في كل الأحوال، أن أي تصورات جديدة عن كيفية عمل العلم تمثل بصورة من الصور نوع من الامتداد لمنهج الاستقراء الذي هو المنهج الأساسي في العلم.
( د ) شمولية القوانين العلمية
تتضمن عملية الاستقراء فرضية أن نفس القاعدة التي تحكم الظاهرة تظل سارية في المجال المحدد لها. فقاعدة العلاقة بين الحجم ودرجة الحرارة في الغازات لها حد أدنى هو درجة الحرارة التي يتحول الغاز عندها إلى سائل. وثابت التسارع في الجاذبية حدوده ارتفاع معين عن سطح الأرض تنعدم بعده الجاذبية الأرضية. والخلية الحية تمارس عملها طبقا لقواعد معينة تحكمها، ولكن في حدود درجة معينة من الجفاف بعد ذلك تضطرب في أسلوب عملها أو تتوقف تماما ..وهكذا.
بمعنى آخر لا تمثل عمليات الاستقراء الجزئية لظواهر الطبيعة سوى قواعد أو قوانين جزئية. ولكن لأنه يمكن تقسيم موجودات الطبيعة إلى فئات من الموجودات المتشابهة، كمثل المعادن والسوائل والغازات والمواد العضوية والخلايا الحية والحيوانات والإنسان. لذلك كان من المعقول افتراض أنه يمكن الربط بين التعميمات الجزئية للموجودات التي تنتمي إلى فئة واحدة ضمن قواعد أكثر عمومية هي القوانين الطبيعية.
وعملية التحول هذه، من التعميمات الجزئية إلى القوانين العامة، تتضمن نوع من التفسير للطبيعة. فنفس نتائج التعميم ذاتها، في تصور معين للطبيعة، يمكن أن تنتج مجموعة معينة من القوانين. والنتائج ذاتها يمكن أن تنتج أيضا مجموعة مختلفة تماما من القوانين تتسق مع تصور آخر مختلف تماما عن التصور السابق. والمثال المشهور لذلك هو التعميمات الجزئية لحركة الأجسام.
فقد قدم جاليليو قوانين الحركة في حالة السقوط الحر وفي حالة الحركة البندولية. وهي قوانين جزئية ناتجة عن استقراء الطبيعة في حالات محددة. وقد أنتج تفسير هذه التعميمات الجزئية، من خلال تصور معين للطبيعة، قوانين نيوتن الميكانيكية، والتي هي قوانين شاملة في الطبيعة. ولكن نفس التعميمات في سياق آخر مختلف، ومن خلال نظرة تفسيرية مختلفة، أنتجت قوانين النسبية العامة.
وعلى ذلك فالقوانين الطبيعية تتسم بأنها تمثل مستوى أكبر من العمومية والتجريد من التعميمات الجزئية المعتمدة على الاستقراء. ولأن التوصل إلى هذه القوانين يعتمد على تفسيرنا للتعميمات الجزئية، فإن قوانين الطبيعة تعتمد إلى درجة كبيرة على تصوراتنا الفلسفية عن طبيعة العالم. فقوانين نيوتن الميكانيكية هي قوانين عامة وشاملة تنطبق على الموجودات المادية سواء كانت موجودات كونية مثل الكواكب والنجوم أو الاجسام الصغيرة مثل جزيئات الأتربة العالقة في الهواء. وهي قوانين تعتمد على النظرة الميكانيكية للعالم.
ولذلك أحد الفروض الأساسية التي يقوم عليها العلم الحديث أن قوانين الطبيعة ثابثة في كل زمان ومكان. فقوانين نيوتن قوانين ثابتة سواء على سطح الأرض أو في باطنها أو في أي مكان في المجرة أو في الكون كله. وهي ثابتة الآن وفي الماضي وفي المستقبل.
فلا يمكن، مثلا، تصور أن قوانين الطبيعة تسري على سطح البحر ولكنها تتغير مثلا على قمة الجبل أو في المناجم في باطن الأرض. ولا يمكن تصور أن قوانين الطبيعة التي تعتمد عليها علوم الجيولوجيا والفلك في العصور الماضية السحيقة قد تغيرت الآن أو يمكن أن تتغير بعد آلاف أو ملايين السنين.
والهدف النهائي للعلم هو التوصل إلى القوانين العامة للطبيعة والتي تتضمن في طياتها كافة القوانين الجزئية. ولأن التغير في الطبيعة ونشأة الظواهر المختلفة يعتمد في النهاية على حركة الأجسام، فإن القوانين العامة للطبيعة هي في النهاية قوانين الحركة. والحركة في الطبيعة تنتج من قوى الطبيعة. لذا فإن قوانين الحركة والتي هي قوانين الطبيعة هي ناتج عن تصورنا للقوانين التي تحكم قوى الطبيعة الأساسية(9).
والقوى الأساسية في الطبيعة حسب آخر ما وصل إليه العلم أربعة قوى أساسية. هي قوة الجاذبية والقوة النووية القوية والقوة النووية الضعيفة والقوة الكهرومغناطيسية. وقد تمكن العلماء من توحيد القوى الثلاث الأخيرة في نظرية واحدة للذرة. فأصبحت القوى الأساسية هي قوة الجاذبية والقوة الموحدة للثلاث قوى الأخرى.
ويطمح العلماء في التوصل إلى النظرية العامة التي تستطيع أن توحد القوى الأربعة الأساسية. وفي هذه الحالة ستكون النظرية الموحدة هي أعلى قوانين الطبيعة عمومية وشمولا وتجريدا، والتي سيتفرع منها باقي قوانين الطبيعة(10).

