أنت هنا

قراءة كتاب العلم وشروط النهضة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
العلم وشروط النهضة

العلم وشروط النهضة

كتاب " العلم وشروط النهضة "، تأليف سمير أبو زيد ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2008 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: مكتبة مدبولي
الصفحة رقم: 2

2 - معايير معالجة الموضوع
النهضة هي مفهوم عملي في الأساس، لذلك فالشرط الأساسي لطرح تصور مقبول عن فكر النهضة هو أن يكون تصور واقعي. وذلك بمعنى أن يهدف هذا التصور إلى تحقيق هدف محدد يؤدي إلى تغيير في أرض الواقع. وأن يكون ممكنا قياس مدى نجاح هذا الفكر في تحقيق هذا الهدف من خلال رصد التحولات المجتمعية الناتجة عن هذا الفكر.
وبهذا المعنى يصبح من اللازم ألا يكون طرح موضوع العلاقة بين العلم الحديث والمعاصر وبين تحولات النهضة العربية، الذي هو موضوع هذا المؤلف، طرحا نظريا فقط، وإنما يجب أيضا أن يكون طرحا عمليا مرتبطا بتغيير الواقع. وحتى يتحقق هذا الشرط في معالجتنا هذه للموضوع يلزم أن يكون مفهومنا للعلاقة بين العلم والنهضة هادفا لتحقيق أهداف واقعية، وأن يرتكز على مفهوم قادر على الربط بين التصورات النظرية والواقع.
والقضية موضوع المؤلف هي العلاقة بين نظرة الثقافة العربية الإسلامية وبين النظرة العلمية المعاصرة للعالم. وهناك ثلاثة تصورات مختلفة للموضوع. أولا، محاولة تحقيق النهضة العلمية في المجتمع بدون محاولة إنشاء علاقة بين نظرة الثقافة العربية وبين النظرة العلمية. ثانيا، محاولة تحقيق تلك النهضة من خلال محاولة تحقيق اتفاق أو تطابق بين النظرة العلمية وبين نظرة الثقافة العربية.
وثالثا، محاولة تحقيق تلك النهضة ليس من خلال التطابق بين النظرتين، وإنما فقط من خلال تحقيق نوع من التوافق أو الاتساق بينهما. والتوافق أو الاتساق "Consistency"، وهو مفهوم موجود في فلسفة العلم المعاصرة، هو مفهوم واقعي أكثر منه نظري. وهو لا يعني التطابق أو التماثل، وإنما يعني فقط عدم وجود أي تناقضات أساسية بين تصور معين وباقي تصوراتنا ومعارفنا عن العالم.
والهدف الأول هو الهدف الذي فشل فكر النهضة العربية في تحقيقه في القرن الماضي لأنه كما هو واضح غير واقعي وغير قابل للتحقيق. والهدف الثاني واضح أيضا، لأسباب عديدة، أنه غير واقعي. أما الهدف الثالث فهو الهدف الوحيد الممكن والقابل للتحقيق، والذي نهدف إلى تحقيقه في هذا المؤلف.
والاتساق المطلوب يتحقق حينما يمكننا الرد على السؤال كيف يمكن أن يصبح العلم مكونا جوهريا في المجتمع العربي. لذلك من الضروري أن يرتكز هذا الاتساق على مفهوم قادر على الربط بين التصورات النظرية للاتساق وبين الممارسات العملية. بحيث يمكن الحكم بأنه إذا تحقق هذا المفهوم العملي تحقق الاتساق المطلوب.
والمفهوم القادرعلى تحقيق الربط المطلوب هو مفهوم القيم المجتمعية. فتحقيق التوافق بين النظرة العلمية إلى العالم ونظرة الثقافة العربية الإسلامية، على المستويين النظري والعملي، يستلزم أيضا أن يتحول العلم إلى قيمة مجتمعية أساسية.
ذلك أن المفهوم الأساسي الذي يعمل من خلاله المجتمع هو مفهوم القيمة. فالبشر إذا اجتمعوا في جماعة واحدة كان من الضروري حتى يتمكنوا من الحياة المشتركة أن يتفقوا على الأهمية الاستثنائية لبعض الأنشطة والمعاملات. فمن الضروري مثلا أن يتفقوا على أن يضمنوا الأمان لبعضهم البعض وأن يلتزم الجميع بذلك. أي أن يعطوا للأمن "قيمة" خاصة في حياتهم كمجتمع مشترك. فالضمان الحقيقي للأمن، إذن، هو أنه قد تحول إلى "قيمة مجتمعية أساسية" يلتزم بها الجميع على وجه العموم، ولا يشذ عنها إلا حالات استثنائية.
كذلك تمثل الأسرة والعلاقات الأسرية قيمة مجتمعية أساسية كامنة في كل فرد، ولا يشذ عن ذلك إلا أقلية محدودة. وكذلك يمثل الحفاظ على الأخلاق العامة قيمة أساسية في مجتمعنا، وكذلك قيمة التكافل الاجتماعي واحترام القانون..الخ من القيم المجتمعية.
لذلك إذا أردنا أن يصبح العلم جزءا أساسيا من حياتنا فلا يكفي أن نقرر بأهميته للمجتمع أو لإثبات الاتفاق بين العلم وبين ثقافتنا، ثم ننصرف إلى شئوننا. وإنما من الضروري أن نعمل على أن يصبح قيمة مجتمعية أساسية مثله مثل باقي القيم المجتمعية.
وتحول العلم إلى قيمة مجتمعية أساسية، هو كمثل أي فكر هادف، له متطلباته. بحيث يمكننا القول بأن تحقيق هذه المتطلبات يعني أن هذا العمل الفكري يسهم في تأسيس قيمة العلم. أي أنه هناك شروط يلزم تحققها في أي عمل فكري يهدف إلى ذلك. وهذه الشروط، التي سنوضحها فيما يلي من سطور، ترتبط مباشرة بالمشكلات التي أعاقت ولازالت تعيق تحول العلم إلى قيمة مجتمعية أساسية في مجتمعاتنا، وبالتالي تعيق جهود النهضة.
أولا، يحتاج تأسيس العلم كقيمة أساسية في المجتمع أن يكون مفهومنا عنه متسقا مع تصوراتنا عن العالم وأن لا يتناقض هذا المفهوم مع أي من اعتقاداتنا الأساسية. وهذا يطرح القضية الجوهرية عن العلاقة بين العلم والدين، وما يتفرع منها من قضايا فرعية. كمثل قضية الحرية والحتمية وحدود المعرفة الإنسانية..الخ.
ويمثل ذلك شرطا أساسيا لأننا إذا تجاهلنا معالجة هذه القضية من الممكن أن ينشأ نوع من التناقض المكبوت بين اعتقاداتنا الأساسية وبين العلم. فيتحول العلم إلى عملية إجرائية سطحية تجري بحكم الحاجة إلى العمل وتحقيق عائد مادي بدون أن يتحول إلى قيمة مجتمعية. فنكون في الظاهر مرحبين بالعلم وفي الباطن رافضين له.
ثانيا، يحتاج تأسيس العلم كقيمة أساسية إلى وضوح العلاقة بينه وبين المجتمع. هل العلم هو مجرد مناهج تدرس في المعاهد والجامعات وتجارب تجرى في المعامل. أم هو نشاطا مجتمعيا شاملا يشمل حياة الإنسان كلها بغض النظر عن كونه عالما متخصصا أم لا، وبغض النظر عن كون الموضوعات التي يتعامل معها الإنسان في حياته قضايا علمية بالمعنى الدقيق أم لا. وإذا كان التصور الأخير هو التصور الصحيح فكيف يكون مفهوم العلم في هذه الحالة. وكيف يكون المجتمع بصفة عامة، وليست المعاهد والجامعات فقط، مسئولا عن تغلغل العلم كأحد القيم الأساسية فيه.
وتتضمن قضية العلاقة بين المجتمع والعلم، بطبيعة الحال، العلاقة بين النظام السياسي والمجتمعي القائم وبين العلم، وأولويات هذا النظام ومدى دعمه لقضية العلم من عدمه. وتتضمن كذلك مسئولية المثقفين في مواقعهم المختلفة سواء الكتاب أو الإعلاميين أو الفنانين ممن لهم التأثير القوي على الجانب الثقافي والفكري في المجتمع.
ثالثا، من المهم التفرقة بين الحديث "عن" العلم والحديث "في" العلم. فالحديث "عن" العلم هو حديث عن العلم كموضوع من الخارج بدون معرفة حقيقية بالقضايا الجوهرية في العلم. سواء على مستوى موضوعات فلسفة العلم أو الموضوعات الأساسية في العلوم التخصصية المختلفة. أما الحديث "في" العلم فهو حديث عن القضايا ذاتها التي يواجهها الفلاسفة والعلماء عند معالجة المشكلات العلمية المختلفة.
ففي الحالة الأولى يشعر المستمع أو القارئ أنه إزاء نوع من الوعظ والتوجيه والإرشاد بدون أن يكتسب أي معلومات إضافية تساعده على تكوين تصوراته الخاصة. أما في الحالة الثانية فيستطيع القارئ أن يتعرف على المشكلات التي تقابل المفكرين والعلماء وأن يتمثلها بشكل أو بآخر. وهو ما يؤدي به إلى أن يصبح بشكل ما مشاركا في هذه المشكلات.
ويستلزم الحديث "في" العلم نوع من المعرفة بالمشكلات المشتركة بين التخصصات والعلوم المختلفة، ونوع من القدرة على الاطلاع على المعارف في العلوم المختلفة. وهذا الأسلوب في معالجة المشكلات العلمية يوصف في الأدبيات بأنه "عابر للمجالات العلمية" "Trance-disciplinary". فنجد مثلا في مشكلات العلم ارتباطا وثيقا بين نظرية ميكانيكا الكم، وهي نظرية فيزيائية وبين مفهوم "الوعي" وهو مفهوم مرتبط بالفلسفة وعلم النفس. أو بين مفهوم الكاوس (الفوضى المنظمة) وهو مفهوم رياضي في الأساس وبين طبيعة عمل خلايا المخ الإنساني والتي تنتمي إلى البيولوجيا..وهكذا.
ولذلك لا يستطيع المتخصص في الفيزياء فقط، مثلا، أن يحيط بالمشكلات العلمية عموما إلا إذا تحول إلى الاطلاع في المجال الأوسع المرتبط بالفلسفة وعلم النفس والعلوم التخصصية الأخرى. كما لا يستطيع المتخصص في الفلسفة فقط، مثلا، أن يحيط بمشكلات العلوم التخصصية الأخرى إلا إذا تحول إلى الاطلاع والمعرفة العلمية المباشرة.
رابعا، فإذا توافرت القدرة على المعرفة والاطلاع على المشكلات المرتبطة بما هو مشترك بين العلوم يصبح من الضروري توفر القدرة على عرض هذه المعارف بشكل مقروء لغير المتخصص. ذلك أن القدرة على تبسيط العلوم والمفاهيم الفلسفية المرتبطة بها هي قدرة مستقلة بذاتها. لأنها تستلزم القدرة على تحويل المفاهيم العلمية التي تطرح عادة في شكل صيغ رياضية أو مصطلحات تخصصية علمية أو فلسفية دقيقة إلى اللغة الأدبية العادية التي يستطيع أن يقرأها غير المتخصص. وإذا وجد غير المتخصص أنه يستطيع أن يحصل على المعرفة العلمية بشكل يسير ومفهوم كان ذلك دافعا قويا له للارتباط بالعلم.
ذلك أنه على الرغم من أن المعارف العلمية الأساسية يتم تحصيلها في مراحل الدراسة المختلفة إلا أن العلم يتقدم ويتغير باستمرار مما يخلق حاجزا بيننا وبين المعارف العلمية الأساسية. وذلك بالإضافة إلى أن التقسيم التخصصي في مراحل الدراسة يؤدي إلى الاهتمام بنوع معين من العلوم وتجاهل أنواع أخرى. مما يؤدي إلى الفصل بشكل أساسي بين المتخصصين في العلوم والمتخصصين في الآداب. فيفتقد العلميون الجانب الفكري والإنساني في العلم، ويفتقد دارسو الإنسانيات الجانب العلمي للفكر الإنساني. وهنا يأتي دور الثقافة العلمية التي تمكن الإنسان من الاستمرار في متابعة المعرفة العلمية والارتباط بها.
خامسا، يحتاج تأسيس العلم كقيمة في المجتمع إلى معالجة الارتباط بين الفرد في حياته العامة والخاصة وبين العلم. ففي مجتمعاتنا نجد أن العالم في المعمل يتبع المبادئ العلمية بشكل دقيق وعن معرفة كاملة بمنهج العلم في تخصصه الدقيق. ولكنه حينما يخرج من المعمل يتعامل مع الآخرين في الطريق، ومع جيرانه، ومع عائلته وأبناؤه، وربما مع زملاؤه في المعمل ذاته، بشكل غير علمي.
وحتى يتحقق ذلك من الضروري إثبات أن التعامل العلمي، بالمعنى المجتمعي العام، يستطيع أن يغير حياة الفرد إلى الأفضل. فتصبح المساهمة في العمل العام، والمشاركة في اتخاذ القرار السياسي والمجتمعي، وتربية الأبناء، والحفاظ على الصحة الشخصية، والحفاظ على البيئة المجاورة، وإدارة الموارد الشخصية..الخ كلها مبنية على أساس علمي بالمعنى العام. وهذا يمكن تحقيقه من خلال بيان العلاقة الوثيقة بين العلم والمجتمع.
وليس في ذلك مبالغة أو تعويما لموضوع العلم أو تسطيحا له ليصبح متساويا مع أي نشاط إنساني عام آخر. فالمجتمعات الغربية الناهضة التي نجحت في السيطرة على العالم لم تنجح في ذلك لمجرد نجاحها في تحقيق طفرة اقتصادية أو معاهد علمية. وإنما نجحت بسبب "الإيمان" بالعلم إن جاز التعبير. فبالنسبة لمجتمعات الحداثة الأوروبية ظهر مفهوم العلم باعتباره أسلوب حياة وباعتباره وسيلة الخلاص للإنسان في العالم وتحقيق سعادته. والمهم هو أن لا يتحول هدفنا لإنشاء العلاقة بين العلم والنشاط المجتمعي عموما إلى مجرد شعار، وإنما أن نحقق الشروط التي تكفل تحقيق هذا التحول إلى أرض الواقع.
وترتبط أيضا قضية علاقة الفرد في حياته الخاصة والعامة بالعلم بموقفه من النظام السياسي وقدرته على تغيير الواقع إلى الأفضل. فليس صحيحا أن النجاح في تحقيق العلم كقيمة أساسية في المجتمع مرهونا باهتمام النظام السياسي أو الحكومة بهذا الهدف أو بدعمها له، وإنما العكس هو الصحيح.
ذلك أنه إذا كان العلم قيمة أساسية في حياة الفرد فإنه سيؤدي إلى إدراكه لمسئوليته عن تغيير واقعه وزيادة قدرته على تغيير هذا الواقع. وهو ما سيمثل دافعا أساسيا له نحو الدفاع عن حقوقه الطبيعية وعن اتخاذ موقفا إيجابيا تجاه مجتمعه. والدليل على ذلك هو أن العلم كان قد انتشر كقيمة مجتمعية أساسية ووسيلة للخلاص في المجتمعات الأوروبية قبل تغير الأنظمة السياسية وظهور الثورة الفرنسية والديمقراطية الإنجليزية بأكثر من قرن من الزمان.
وإذا تحققت هذه الشروط، التي تتمثل في إنشاء علاقة العلم باعتقاداتنا وتصوراتنا الأساسية وبينه وبين المجتمع وبينه وبين الفرد وتوفر المعارف اللازمة وأسلوب نقلها إلى القارئ. إذا تحققت هذه الشروط في العمل الذي يتصدى لقضية تأسيس قيمة العلم في المجتمع كان من الممكن اعتباره عملا صحيحا له مضمون عملي حقيقي وليس مجرد تصورات نظرية تهدف لاستخدام العلم كشعار عام خال من المضمون.

الصفحات