كتاب " الفلسفة والتسامح والبيئة "، تأليف فريال حسن خليفة ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2006 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الفلسفة والتسامح والبيئة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الفلسفة والتسامح والبيئة
4 - المعرفة والتأويل في الدين :
إذا انتقلنا إلى العصر الوسيط نجد أن الصراع يدور على التأويل في المعرفة والتصديق . وأشد القوى تعبيرا عن هذا الصراع هو الصراع بين الغزالى من جانب والفارابى وابن سينا وابن رشد من جانب آخر . وهو صراع ينتهي بالغزالى إلى نقد الفلسفة وتكفير الفلاسفة .
وعلى هذا يبقى العلم الحق عند الغزالى هو اعتقاد أهل السنة ، وأركان هذا العلم يحددها في كتابه " الاقتصاد في الاعتقاد " ، وفيه يزعم أن العلم هو التصديق البرهاني ، ويحدد ثلاثة أشكال للتصديق :
أ - التصديق الإيماني .
ب - التصديق عقد تقليدي .
ج - التصديق يقين برهاني"(29) .
ثم يستطرد فيقول : "وصاحب الشرع لم يطالب العرب بأكثر من التصــديق ، ولم يفرق بين أن يكون ذلك بإيمان أو عقــد تقليدي أو يقين برهاني" (30) .
وبهذا القول أصبح لا معنى لتعدد أشكال التصديق ، ويكون قوله بالتصديق البرهاني لا مجال له ولا دلالة ، مادام قد تساوى التصديق في النهاية بأي نحو يكون ، ولم يعد ضرورة للتمييز بينها ، ولم يعد للتصديق البرهاني قيمة ، ولذلك يبقى العلم الحق عنده هو ( علم الكلام ) عقيدة أهل السنة ، ويصنف الغزالى موضوعات هذا العلم في أربعة أبواب في كتابه " الاقتصاد في الاعتقاد " فيذكر :
أ - باب النظر في ذات الله .
ب - باب النظر في صفات الله .
ج - باب النظر في أفعال الله .
د - باب في رسول الله .
وفى الغــرب المسيحي كان أشــهر دعاة التبرير هو القديس أوغســطين ، (354-430) أشهر آباء الكنيسة ، ومعه يبدأ استقلال العقل بذاته - الذي تجلى في الفلسفة اليونانية - في التراجع أمام سلطة الكتاب المقدس ورجال الدين .
" فالعقل عند أوغسطين لا يستقل بذاته في إدراك الحقيقة المطلقة… ولكي يكون برهان العقل يقينا لا بد له من الاعتماد على السلطة ، التي تمحو كل شك وتردد قد يتركه العقل في البرهان"(31) .
فأصبحت الفلسفة عند أهل التبرير خادمة للاهوت وبات مركز اهتمامها معرفة الله وعلاقته بالإنسان ، وفي اهتمام التبريريين أو الكلاميين بوضع براهين وجود الله فقد الكلاميون كل صلة بمستلزمات التطور الاجتماعى ، وباتت الفلسفة المعزولة عن الحياة والبالغة التعقيد تسمى عن قصد بالفلسفة الكلامية"(32) .
بينما في الشرق الإسلامى عند الفلاسفة المسلمين مثل الكندى ( 803- 873م) نجد التوازن بين الحقيقة الدينية والعقل . يقول الكندى : "موضوع الحقيقة واحد بين الفلسفة والدين ، وما أتت به الرسل يصل إليه الفيلسوف بالعقل ، فالعقل هو منهج البحث فيما بعد الطبيعة"(33) .
وعند الفارابي في " آراء أهل المدينة الفاضلة " العقل الفعال مصدر المعرفة عند الفيلسوف ومصدر الوحي عند النبي . فامتياز الفيلسوف العقل ، وامتياز النبي ملكة المخيلة . بينما عند ابن رشد في كتاب " فصل المقال " يذكر ثلاثة أشكال للمعرفة : الخطابية والجدلية والبرهانية ، والمعرفة البرهانية هي أتم أنواع المعرفة وهى خاصة بالفلاسفة والخواص في الدين . وذلك أن الشرع أوجب النظر البرهانى في الموجودات " فاعتبروا يا أولى الأبصار " ، وكان الاعتبار ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه ، وهذا هو القياس… وهذا النحو من النظر الذي دعا إليه الشرع وحث عليه هو أتم أنواع النظر بأنواع القياس وهو المسمى برهانا"(34) .
" ولا يؤدى النظر البرهانى إلى مخالفة ما ورد به الشرع ؛ فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد لـه !! وإذا كان هذا هكذا فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو عرف به ، فإن كان مما سكت عنه فلا تعارض هناك… وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا . فإن كان موافقا فلا قول هناك ، وإن كان مخالفا طلب هناك تأويله"(35) .
وطلب تأويل ما هو مخالف للبرهان إنما ينطوي بالضرورة على إعلاء العقل ، أو على طلب الشريعة المعقلنة ، وهو طلب أدى إلى " اضطهاد ابن رشد في أواخر أيامه بسبب وشاية الفقهاء ، وكان ذلك إيذانا بارتحال الفلسفة وعلومها نهائيا إلى أوروبا . إذ قد ترجمها اليهود والمسيحيون إلى اللاتينية في صقلية ، وطليطلة بالأندلس ، وبذلك انتشرت الفلسفة الإسلامية والأرسطية بين المفكرين في أوروبا . كما انتشرت في أعقاب ذلك الفلسفة الأرسطية الخالصة ترجمة عن اليونانية مباشرة في مدينة القسطنطينية التي كان البنادقة اللاتين قد استولوا عليها في الحرب الصليبية الرابعة في مطلع القرن الثالث عشر ( 1204) فتأثر الأوربيون بالفلسفة الأرسطية ووصلت الفلسفة المسيحية إلى أوج ازدهارها في الفلسفة المدرسية… بينما ظهر لابن رشد في جامعتى باريس، وبادو بإيطاليا تلاميذ كثيرون وكان لهم بعض الفضل في إنهاء العصور الوسطى في أوروبا والتمهيد لعصر النهضة الأوروبية"(36) .
5 - المعرفة وصراع القطيعة مع الدوجما :
وبفضل الإصلاح الديني في القرنين الرابع عشر والخامس عشر يبدأ العقل في استرداد حريته المسلوبة منه في الدين ، ويكون له استقلالية بذاته . ولم يتم ذلك دفعة واحدة ، بل اتخذ مسارا من التطور . فمبدأ إعمال العقل في الدين الذي أقامه ابن رشد يطبقه مارتن لوثر على العهد الجديد ، ويكون الإيمان هو العلاقة المباشرة بين الإنسان والله . وبذيوع البروتستانتية تحققت التعددية الدينية ، وهى في دلالتها إعلاء للعقل ، وبالعقل تجاوز الفلاسفة الحقيقة الدينية الجاهزة في العصر الوسيط .
وفي العصر الحديث ارتبطت المعرفة بالطبيعة والعقل وتخلت عن الحقيقة الجاهزة في الدين واتخذت المعرفة أشكالا ومسميات مختلفة : حسية ، وعقلية أو برهانية ، ونقدية وجدلية…الخ . ومع تطور أشكال المعرفة ومناهجها تطور أيضا مفهوم الحقيقة واليقين في المعرفة في العصر الحديث . ويقول ديكارت بالحقيقة العقلية واليقين العقلي في مقابل الحقيقة الدينية واليقين الديني في العصر الوسيط . ويتخذ ديكارت من العقل مصدرا للمعرفة والحقيقة واليقين ، والعقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس ، والفارق بين البشر هو الفارق في استخدام العقل .
بينما نجد أن جون لوك يؤكد على ثلاثة أشكال للمعرفة وهي : الحسية ، والحدسية ، والبرهانية ، وما ينتهي إليه العقل بالدليل والبرهان هو حقيقة إنسانية ويقين إنساني ، وليست الحقيقة المطلقة في ذاتها أو في طبيعتها . ويعلل ذلك بأن قدراتنا المعرفية لها حدود ، فهي لا تكشف لنا عن الطبيعة الحقيقية للموجودات المادية أو الروحية ، فأضحي اليقين المعرفي الموسوم به الحقيقة عند لوك هو يقين إنساني ، وليس اليقين المطلق . فالحقيقة المطلقة بعيدة المنال عن متناول قدرات الإنسان وملكاته المعرفية ، وإدراك الإنسان وتناوله لها هو إدراك إنساني ، وليس الحقيقة في ذاتها وطبيعتها (37) .
ثم يأتي كانط بفلسفته النقدية ليجعل معرفة الحقيقة من حيث هي مجاوزة للزمان والمكان معرفة صورية خالصة ، ووجودها وجود صوري لا يتجاوز حدود العقل ، والعقل الصوري عقل جدلي قادر على إثبات القضية وإثبات نقيضها في آن واحد ، وبذلك يشكك كانط في وجود الحقيقة من حيث هي مطلق طبيعى ، ويجعل المعرفة الإنسانية محدودة بالحساسية الصورية والفهم ، وحدودهما هي ما يبدو لنا من الظواهر . أما الشيء في ذاته أو المطلق فهو عند كانط يفتقد الوجود الموضوعي ، فلا يمكن أن يكون موضوعا للمعرفة الإنسانية ، فيشكك في إمكانية معرفته على مستوى العقل النظري ، ويحيله إلي مصادرة أو مطلب للقانون الأخلاقي على مستوى العقل العملي ، ويجعل بذلك الدين فعلا أخلاقيا مؤسسا على الأخلاق لا العكس .
وعلى هذا يكون العقل الإنساني عند كانط متحررًا تماما محققا استقلاليته ، أو بتعبير كانط قد اكتمل رشده .

