أنت هنا

قراءة كتاب الفلسفة والتسامح والبيئة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الفلسفة والتسامح والبيئة

الفلسفة والتسامح والبيئة

كتاب " الفلسفة والتسامح والبيئة "، تأليف فريال حسن خليفة ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2006 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: مكتبة مدبولي
الصفحة رقم: 7

ثالثا : البعد الثاني في معني الفلسفة هو النقد

1 - معنــى النقــــد في التفلسف :

لو أحصـينا المذاهب الفلســفية ابتداء من الطبيعيين الأوائل في القــرن 6 ق . م حتى مدرسة فرانكفورت ، نجد أنفسنا أمام عدد كبير من المذاهب المادية والمثالية والعقلية والتجريبية ، والنقدية والوجودية والظاهريات والبنيوية والوضعية والتحليلية والتفكيكية…الخ ، وهذا التراكم الهائل من التراث الفلسفي يثير في النفس التساؤل عن كيفية التفلسف ؟ الذي أثمر كل هذا التراث الفلسفي للبشرية بكل هذا التنوع الضخم من الأفكار والمناهج .

والكشف عن كيفية التفلسف يقتضي أن تحدد بداية معنى الفيلسوف ، ونبدأ بما قاله فيثاغورس ( 582 - 500 ق . م )حين وجه إليه السؤال : " ماذا أنت تكون ؟ أجاب : أنا فيلسوف ، والكلمة لكونها غير مألوفة بالنسبة للسائل قدم فيثاغورس توضيحا جاء فيه : إن الناس في الحياة بعضهم ولد ليكونوا عبيدا من أجل إشباع غرور الأغنياء ، والبعض الآخر هم الحكماء الباحثون عن الحقيقة"(38) . والبحث عن الحقيقة في أي مجال في الفكر أو في الواقع ، في الثقافة أو في العلم ، في الفلسفة أو في الدين ، إنما يتطلب من الفيلسوف موقفا نقديا في مجال الحقيقة المبحوث عنها ، وما أعنيه بالنقد هو فعل عقلي إرادي يكشف عن التناقضات فيما هو قائم والتي من خلالها تتوافر للفيلسوف شرعية عقلية ومنطقية تسمح له بالتجاوز وبناء إبداع جـــديد ، والقــدرة علي تجــاوز المنقــود هي التي تسمح بالقــول مع برونو باور ( 1809-1883) إن النقد هو الأداة التي تطور - دون انقطاع - المذاهب الفلسفية والسياسية والدينية والاجتماعية . وبهذا المعني يكون النقد هو أيضا الفعل الثوري الذي يحرك كل ساكن ، ويغير كل ثابت ، ويزعزع كل جامد ، ويحول كل واقع ؛ فالنقد هو أساس التطور في كل المجالات ، وهو في الفلسفة يشكل طبيعة خاصة لها ؛ فالنقد ليس مجرد الرفض أو النفي أو بيان المميزات والعيوب ، أو السلبيات أو الإيجابيات ، أو المدح أو القدح في هذا الوضع أو ذاك ، بل هو القدرة على كشف التناقضات وتجاوزها .

فالنقد والتجاوز هما أساس التراكم الابداعي في الفلسفة . والنقد في طبيعته ينطوي على الشك في مصداقية المنقود ، والشك هو الذي يدفع الفيلسوف إلى النقد . لذلك عندما يعلن انكسمندريس (610-547 ق . م ) نقده قول طاليس ( 624 -546 ق . م ) بالماء مبـدأ أول ويرى أنه لا يصــلح أن يكون مبدأ أول ، فهو يشكك في مصداقية الماء كمبدأ أول . وللشك أسباب أن الحار والبارد سابقان عليه وهذا يبطل أولية الماء . وفي المقابل يقول باللامتناهى. ثم يأتي أنكسمانس (588 -524 ق . م ) وينقد انكسمندريس لقوله باللامتناهى . ويشكك فيه باعتباره مزيجا من الأضداد ، فهو ومن ثم مركب وليس بسيطا فلا يصلح أن يكون مبدأ أول لأنه يناقض مفهوم المبدأ الأول ، ويستعيض عنه بالهواء لأنه أكثر بساطة ووحدة . ويكشف هيراقليطس تناقضًا آخر فيما انتهى إليه فلاسفة ملطية . إن الأشياء في تغير ولكنها ترتد في النهاية إلى أصل واحد ، ويتجاوز ذلك القول بأن " العالم كلٌُ واحد نار حية وسيلان أبدى ، تشعل نفسها بمقاييس منتظمة ، فالحركة مستمرة والتناقض قائم مصدرا للحركة ، فكل شيء ينساب ، ولا شيء يسكن ، وكل شيء يتغير ، ولا شيء يدوم على الثبات "(39) .

ويكشف بارمنيدس ( 540 ق . م ) عن التناقض في مفهوم التغير ليبرر أن الوجود موجود ثابت لا يتغير بينما التغير يعني أن الموجود كان موجودا ولم يكن موجودا ( ما صار إليه ) وأنه باق في الوجود ، ومع ذلك فهو ليس موجودا ( على ما كان ) (40) .

ويكشف السوفسطائيون التناقض بين الثبات عند بارمنيدس والتغير عند هيراقليطس ويفضي ذلك عند بروتاغوراس إلى وضع الحقيقة موضع التساؤل والشك وينتهي للقول " إن الإنسان مقياس جميع الأشياء " . ولأن الإنسان هو الإنسان الفرد ، فكل الأحكام على السواء ، لأن الحكم إحساس والإحساس هو المصدر الوحيد للمعرفة ، ومن ثم تبطل الحقيقة من حيث هي كلية أو مطلق .

ولكن السوفسطائيين دعاة علم ، والعلم أساسه الكلى عند سقراط ، فيبدو لـه مفهوم العلم عند السوفسطائيين متناقضا . فاصطنع سقراط منهج التهكم والتوليد . ليكشف للسوفسطائيين تناقض مفهوم العلم لديهم ، ولكنه يكتشف أيضا أن الحقيقة من حيث هي مطلق أو كلي بعيدة المنال .

ولكن تعرية الواقع من الحقيقة واعتبارها بعيدة المنال هو ما أطاح بسقراط في نظر أفلاطون فأقام نظرية في المثل ، وعالمًا مفارقًا قائمًا بذاته في مقابل العالم المحسوس ، وبالتالي فالحقيقة ليست شيئا يحدثه أو يصل إليه العقل ، بل هي شيء يتذكره .

ولهذا كان نقد أرسطو لأفلاطون ، لأن الماهيات أو الصور أو المثل لا توجد مفارقة أبدا ، بل هي متحققة في الجزئيات ، ويدركها العقل بالتجريد .

ولو انتقلنا إلى العصر الحديث لوجدنا ديكارت ناقدا لعصر بأكمله ، ويقيم العقل مبدأ ومنهجا في مقابل الإيمان والتقليد . ولوك وهيوم وباركلي وكانط ناقدون لديكارت ، وهيجل ناقد لفلسفة التنوير ، وماركس والهيجليون الشبان ناقدون لهيجل ، والوجوديون ناقدون للماركسية والهيجلية . والوضعيون المناطقة ناقدون للماركسية والهيجلية ، وفلاسفة فرانكفورت ناقدون لكل الأنساق .

وهكذا نجد أن كل المذاهب الفلسفية البارزة ينقد أحدها الآخر ، ويتخذ النقد زوايا ومسارات متعددة فقد يكون نقدا للبعد الميتافيزيقي ، أو البعد السياسي ، أو البعد المعرفي ، أو البعد المنهجي . ولكن مهما تعددت زوايا النقد ومساراته فإنه يعكس في النهاية الطبيعة النوعية للفلسفة ، وهي القدرة على كشف التناقضات وتجاوزها .

الصفحات