كتاب " الفلسفة والتسامح والبيئة "، تأليف فريال حسن خليفة ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2006 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الفلسفة والتسامح والبيئة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الفلسفة والتسامح والبيئة
رابعا : الفلسفة مركب جدلي من المعرفة والنقد هي التنوير
إذا كانت العلاقة بين المعرفة والنقد علاقة جدلية ، والنقد فعل عقلي إرادي وهو القدرة على كشف التناقضات وتجاوزها . فجدل المعرفة والنقد يدفع بالمعرفة إلى التطور ، كما يدفع أيضا بالأداة الرئيسية في النقد - وهي العقل - إلى التطور .
والنقد في إطار المعرفة ، كما هو في إطار الواقع ، يجعل المعرفة - كما يجعل الواقع - في تطور مستمر ، وإذا ارتضينا أن العالم متطور ، وأن المعرفة هي انعكاس للواقع المادي في العقل الإنساني . وأن الإنسان هو جزء من هذا العالم ، فمعني هذا أن موضوع المعرفة متطور من تطور العالم ، وتطور الإنسان في علاقته بالعالم ، ويلزم عن هذا أن المعرفة في تطور إلى مالا نهاية ، لأن العالم باق في تطور إلى ما لا نهاية .
وإذا كان التطور في الطبيعة فعلا طبيعيا باطنيا في العالم فإن التطور في المعرفة والواقع بكل أبعاده الفكرية والاجتماعية والسياسية هو ليس تطورا آليا ، ولكنه تطور بفعل النقد سواء كان المنقود معرفة أو واقعا .
ولأن النقد فعل عقلي إرادي ، فالتلازم ضروري بين النقد والحرية ؛ معني هذا أن العقل الناقد هو العقل الحر في كل مجالات المعرفة والواقع ، ومن ثم تبقي قدرة العقل على النقد هي دلالة ومؤشر على حرية العقل .
والحرية نقيض القهر ، والعقل المقهور هو العقل المنغمس في براثن الدوجماطيقية أي " الاعتقاد بحقيقة مطلقة تتجسد في الواقع ، ويمتنع مع هذا التجسد ألا يكون للعقل سلطان على ذاته "(49) .
معني هذا أن تحرير العقل من الدوجما يحقق سلطان العقل على ذاته ، وهذا يقتضي من الإنسان " قوة العزيمة والجرأة على إعمال عقله "(50) . وإعمال العقل يبدأ بوضع الدوجما موضع التساؤل ، وهنا أستعير من ديكارت قاعدته المنهجية الأولي : " ألا أقبل شيئا ما على أنه حق ما لم أعرف يقينا أنه كذلك "(51) ، ووفقا لهذه القاعدة يجب على الإنسان عند ديكارت أن يضع كل المعارف الإنسانية موضع الشك ، وأضيف إليها : يجب عليه أن يضع كل دوجما موضع التشكك ، ومن ثم موضع الفحص النقدي ، أيًا كانت الدوجما دينية أو سياسية أو اجتماعية .
والفحص النقدي في الدين يكشف عن تناقضات الدين مع العقل والواقع المتطور ، وتجاوز هذه التناقضات لا يتم إلا بالتأويل ، فالتأويل قضاء على دوجما الدين ، لأن التأويل يمنع تحول الدين إلى لاهوت أو علم كلام ، أي يمنع تحوله إلى معتقد متحجر في الواقع .
وذكر التأويل يُذكر بابن رشد في كتابه " فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال " حيث يضع في هذا الكتاب مبدأ العقلانية في الفكر وفي الدين وهو مبدأ التأويل ، لما ينطوي عليه من إعلاء للعقل ويحقق تحرره ، واستقلاليته بذاته بوصفه عقل إنسان فرد ، لا عقل الإجماع .
بينما نقد اللاهوت الطبيعي يتم بنقد المعرفة الإنسانية التي تزعم إثبات معرفة وجود المطلق ، ذلك ما اتخذته الفلسفة النقدية عند كانط مهمة لها " ، وفي نقد اللاهوت العقلي يفحص كانط أدلة وجود الله وبالذات الدليل الأنطولوجى والكسمولوجي والفيزيقي ، فيثبت استحالتها وعدم كفايتها وينتهي إلى أن فكرة الموجود الكامل ليست إلا مثالا في خدمة العقل النظرى من أجل تحقيق وحدة المعرفة ، أما وجودها الموضوعي فليس من الممكن أن يكون موضوع إثبات أو إنكار . نتيجة الديالكتيك إذن نافية بمعنى أن القضايا الثلاث ( الله والحرية والخلود ) ليست موضوعات للعقل الخالص ، ولكنها موضوعات للعقل العملي ؛ ويترتب على ذلك أن أفكار العقل الخالص ( الله والنفس والعالم ) ليست مبادئ منشئة ، ولكن مبادئ منظمة (52) .
والفحص النقدى لدوجما الواقع الاجتماعي والسياسي هو فعل ثورى يكشف تناقضات الواقع ، ويلازمه التغيير ، وقد يكون التغيير جزئيا ، وقد يبدو مجرد تعديل في الشكل إلا أن التراكمات الحادثة عن التغيرات الجزئية مع استمرار الفعل الثورى أو استمرار النقد تؤدى لا محالة إلى نقلة كيفية في الواقع . وهنا تبدو أهمية النقد وأهمية الديالكتيك ، أو تبدو أهمية برونوباور ، وكارل ماركس .
نخلص من هذا أن حرية العقل وتحقيق استقلاليته هي مكتسب إنساني مؤسس على جدل المعرفة والنقد ، فابن رشد يحرر الإنسان من دوجما علم الكلام ، وطريق التحرير هو البرهان والتأويل ، وكانط يحرر العقل من دوجما اللاهوت ، وطريقة نقد المعرفة النظرية المدعية معرفة المطلق .
وبرونو باور يحرر الوعي من التحجر وطريقة النقد ، وماركس يحرر الإنسان من كل دوجما في الواقع وطريقه الجدل المادي والثورة الجذرية الاجتماعية الشاملة .
وطريق التحرير لم يسر في خط مستقيم بفعل صراع القوى الاجتماعية المناهضة للنهضة والحرية والتنوير ؛ لذلك فإن التيار الفلسفي الذي يحمل اسم التنوير في العصر الحديث ما هو إلا نقلة كيفية ، تحققت بفعل التراكمات الفلسفية ابتداء من طاليس في القرن السابع ق . م حتى فلاسفة التنوير في العصر الحديث .
والتنوير كما هو في تعريف كانط " هو هجرة الإنسان من اللارشد ، والإنسان علة هذه الهجرة ، واللارشد هو عجز الإفادة من عقله من غير معونة من الآخرين . كما أن اللارشد سببه الإنسان ذاته عندما لا تكون علته مردودة إلى نقص في العلم ، وإنما نقص في العزيمة والجرأة على إعمال العقل من غير معونة الآخرين ، كن جريئا في إعمال عقلك ، هذا هو شعار التنوير " (53) ، وهو دعوة لتحقيق سلطان العقل أي تحقيق استقلاليته ، ومن ثم تحرير الإنسان. ولما كانت الحــرية هي مكتسب جدل المعــرفة والنقد ، كانت الفلسفة هي التنوير .