أنت هنا

قراءة كتاب الفعل السياسي بوصفه ثورة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الفعل السياسي بوصفه ثورة

الفعل السياسي بوصفه ثورة

كتاب " الفعل السياسي بوصفه ثورة " ، تأليف مجموعة مؤلفين ، الذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 3

كانت آرنت، حقاً، امرأة فريدة، ومتميزة، واستثنائية في إصرارها ، وقوة عزيمتها، وفي انتشالها نفسها من كبوات الزمن التي رافقتها منذ صغرها في العائلة، وفي الزواج، وفي الحب، وفي المعرفة ، وفي الهوية، وفي الهجرة، وفي المطاردة، وفي ترسيخ الجذر من جديد، وفي أن تكتب وتبدع رغم كل ذلك؛ إنسانة استثنائية . كانت تلك الثورة التي أعلمتنا بشروطها فكانت البدء من جديد على الدوام، إنها اللامتوقع الدائم إنها حَنّه آرنت .

نوستولوجيا نحو أرسطو:

في تفصيلات الحياة الإنسانية

من التأمل إلى الممارسة وتحديد المزاولة

لا يمكن أن نفهم آرنت دونما معرفة مجال اشتغالها الأساسي أو اهتمامها الأصلي. وندعي أننا مسكنا تلك الثيمة؛ إنها شبكة التصنيف للحياة الإنسانية وأوضاعها، ومن ثم أنشطتها. إن َّها تستدعي في كل ذلك بعداً تراثيّاً يعود بجذره إلى الفكر الارسطي في تصنيف الحياة إلى ما يقابل النظر أو التجريد ومايقابل العملية أو النشاط. وذلك من أجل تأسيس نظرية في السياسة؛ لا ندّعي جدتها بكل تفرعاتها وإنما فيها الكثير من محاكاة حياة الدولة ـ المدينة اليونانية ( Polis) .

تنشطر الحياة، كما قرأها أرسطو (4) وكررتها آرنت بشيء من التغيير الطفيف، إلى شطرين هما : (5)

1 ـ الحياة التأملية أو التفكرية (حياة النظر) ( Vita Contempletiva ) وتتضمن حياة الفكر أو العقل أو لنقل الحياة التي تنشغل بتأمل الوجود وما هو دائم أو أبدي.

2 ـ الحياة النشطة أو (حياة العمل ـ بمعناه العام) ( Vita Activa ) وتمثل الحياة الفعلية التي تتعلق بما نزاوله وما نمارسه مع الاشياء والآخرين. فالانفصال الحاصل بينهما حسب افلاطون وأرسطو أيضاً، لا تعتمد فيه آرنت قولاً، بل إنها تجد مهمة الفكر هي اختراق عالم الممارسة في التطبيقات السياسية والأخلاقية، ولامعنى اليوم للفكر إن انزوى خارجها، فلا طائل منه حينها، وحينما توكل إليه مهام التحرر، والتفعيل، والعقلنة، فإن ذلك لا يجعله مقبولاً إن كان منعزلاً. فلا الفكر من أجل الفكر مقبول، كما لو نفكر بلا عمل، ولا الممارسة بلا فكر مقبولة، كأن نفعل بلا تفكير.

وتؤكد آرنت أن التفكير ليس حال دهشة مطلقة وعزلة لا آخر لها، بل إنه حال امتلاء بالوجود مع الآخرين وهو يحمل صفتين:

ـ التأملية : والتي يتمثل التفكير فيها بأنه انطواء أو انعكاس الأنا على نفسه.

ـ الثنائية التذاوتية: والتي بوساطتها يتحقق الحوار بين وعيين، وذلك يؤكد الحاجة إلى الآخر؛ فالفكر بالأساس حوار: داخلي تارة وخارجي تارة أخرى. (6)

وما يهمنا حسب آرنت هو تفصيلات الحياة النشطة بوصفها بيئة الوضع الإنساني وأنشطته، فهي تنقسم إلى الكدح (7) ( Labor) والعمل ( Work) والفعل ( Action) ، ذلك التمييز الذي يهدف إلى تحديد نشاطات الإنسان وما يقابلها من أوضاع بشرية وما ينتج عنها.

تقصد آرنت (8) من الكدح ( Labor) : كل نشاط يتوافق مع العمليات البيولوجية أو مايتطلبه الجسد الإنساني من عمليات النمو والتمثيل الغذائي، فالهم الأساس فيه هو الاستهلاك لديمومة الحياة. يقابل هذا النشاط الوضع الإنساني المنهمك في الحياة نفسها لاغيرها. أما العمل ( Work) ، فيمثل: النشاط اللاطبيعي، أو لنقل الصنائعي في الوجود الإنساني. فهو يوفر عالماً من الأشياء المصطنعة، وهو ذو أمد طويل نسبياً في الاستهلاك، فهو يقدم أدوات لتبقى فترة أطول غير ملتصقة بالفناء مباشرة كما هي الحال مع مطلب الكدح ( Labor) ؛ والنشاط هذا يقابل وضعاً إنسانياً متعلقاً بشؤون الحياة الدنيوية في العالم الذي نصنعه. ويشير النشاط الثالث وهو الفعل ( Action) إلى : الفاعلية الوحيدة، التي من شأنها أن تذهب مباشرة إلى ما بين الأشخاص أو في عالم المابين الإنساني، الذي نقطنه بشكل تعددي أو جماعي، ولا تتوسطه الأشياء والمواد كما في الكدح ( Labor) أو العمل ( Work) . وفي هذا التمييز مقاربة مما قدمه أرسطو في ما يقابل الكدح ( Labor) بوصفه يخص الشؤون الحياتية الخاصة لمطلب الحياة الأسرية بصفتها العبودية أو الطاعة والخصوصية، وما يقابل العمل ( Work) في طبقة العمال وما يمارسونه من حرف بوساطة أيديهم لخلق أدوات في عالمنا، والفعل ( Action) هو صفة الاحرار الذين أُذنت لهم وخصصت الممارسة السياسية في فضائها العام. (9)

وما يميز الكدح ( Labor) عن العمل ( Work) هو أن الأول يقوم على استهلاك مايكدح من أجله مباشرة، فالاستهلاك هو سبب ديمومة الحياة؛ بينما العمل (Work) يصنع أثراً أكثر دواماً بهيئة صنائعية لوسائل تشكل عالماً من الأشياء خارجاً عن ذواتنا لكننا نعيشه. وعلى ذلك وصفت آرنت الكدح (Labor) بأنه ما يتعلق بأجسادنا (10) ، بينما العمل (Work) هو مايتعلق بأيدينا. في إشارة إلى الحيوانية والطبيعية في الأول، واللاطبيعية والصناعية ـ البشرية في الثاني. هنا يظهر تصنيف آخر للوضع الإنساني الخاص بهما وهو الكادح الحيواني (Animal Laborans) والصانع الإنساني (Homo Faber) ، تلك الأوضاع التي تبين ماهية الإنسان وموقعيته في سلم التصنيف الآرنتي. ويعني الكادح الحيواني: من لايعمل بحرية ويكون مدفوعاً بحاجات جسده وساعياً إلى ضرورات الحياة لضمانها، والصانع الإنساني سيكون همه أن يستعمل يديه ووسائله لغرض صنع أشياء في عالمنا تكوّن وسائل وغايات أخرى. (11)

يبقى الفعل (Action) فهو مايمارس خارج هذه الانهماكات في الحياة وصنعها، إنه لايتعلق بماديات العالم واشيائه بل بالأشخاص الذين يسكنون هذا العالم، إنه ما يتعلق بالانوجاد مع الآخر والتفاعل معه، إنه الحرية، وهي بدورها السلطة. (12) وذلك الانوجاد تعددي بطبيعته لأن الآخر دائم الوجود لتحقيق معنى الفعل (Action) ، وذلك الفعل مع الآخر لا يمكن أن يتم أو تتحقق ماهيته، أصلاً ، دونما القول؛ فالفعل والقول كلاهما يشكلان الشرط الأساسي للنشاط السياسي ، وذلك يقوم بدوره على مبدأي المساواة والتميز. فإن لم يكن أفراد المجتمع متساوين فإنهم لايستطيعون فهم بعضهم البعض، وإن لم يكونوا متمايزين فإنهم لايمكنهم أن يعبروا عما هم، وكيف يرغبون أن يكونوا؛ إنهم بحاجة للفعل والقول ليفهموا أنفسهم والآخرين، فالإشارات والأصوات إنما هي أدوات لتحقيق ذواتهم ومايكفيهم لحاجاتهم عبر تلك الافعال والاقوال. إنها إظهار لماهم عليه إجابة على سؤال من أنتم؟ (13) وذلك إنما يستدعي ضرورة الفهم السياسي الأثيني، إذ إن المدينة (Polis) كانت هي والميدان السياسي بأسره «حيّزاً للمظاهر من صنع الإنسان، حيث تكون الافعال والكلمات الإنسانية معروضة للجمهور الذي يشهد واقعيتها ويحكم على جدارتها» (14) . ولذلك كان اشتقاق (Politics) من (Polis) ، كما جاء بجذره من الإغريق (15) ، وذلك يستلزم الإشارة والاعتماد على البعد النقاشي في الاقوال التي تلازم الفعل الحر في الميدان العام بوصفه نشاطاً عاماً. فالنقاشات أو الفعل بوصفه تفاعلاً سياسياً يبقى كاشفاً عن معنى أن تكون إنساناً ومواطنا ً حائزاً على حقوق المساواة والإمكان في الإسهام السياسي.

وتقترن المساواة في التفكير الإغريقي بشكل وثيق مع الحرية، حرية التعبير والتفكير والتصرف. إلا أن وجود الحرية غير كافل للديموقراطية بشكل فعال ، إذ يلزم على المواطنيين أنْ يكونوا فاعلين في استعمالهم الحرية ، وذلك عبر قوة إرادتهم وهو ما يتجلى في نقاشاتهم العمومية في الساحات والأماكن والفضاءات العامة ( Agora ). وبذلك فالمواطنون الأثينيون يكونون مرتبطين كمشاركين سياسيين بمبدأ المساواة، والذي يعتمد بدوره على حرية الفعل أساساً (16) . وتلك الصفات تلتصق بحالة السياسة في المدينة (Polis) التي تكشف عن اختباء وخفاء الذات لتضعها بين أيدي الآخرين (ظاهرة) في أمل التشارك والتذاوت لغرض تحصيل السعادة بتحقيق فضائل الاجتماع السياسي الممكنة.

الصفحات