أنت هنا

قراءة كتاب الفعل السياسي بوصفه ثورة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الفعل السياسي بوصفه ثورة

الفعل السياسي بوصفه ثورة

كتاب " الفعل السياسي بوصفه ثورة " ، تأليف مجموعة مؤلفين ، الذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 5

وترى آرنت أن الوضعية البشرية تتميز بكون الناس، وبوصفهم كائنات فانية، يخلقون عالماً يكون مأوى لهم ولمدة محدودة، ولأن هذا العالم هو من صنعهم ولأنهم يتغيرون باستمرار فهو معرض دائماً للتآكل والاضمحلال، وبالتالي فإن خطر الفناء ستكون نتيجته تماماً كصانعيه. ولحمايته من ذلك الفناء ودفعه باتجاه الخلود يلزم العمل باستمرار على استقراره، وذلك الاستقرار يكون ممكناً بوسيلة التربية. (31)

ويمكن فهم الوضع الإنساني في تراتبياته وفق افتراضات ثلاثة هي: (32)

1 ـ إن الإنسان متميز عن غيره من المخلوقات بكونه الراغب بالخلود دوماً.

2 ـ إن هذه الرغبة تتحقق فقط من خلال الفعل، من خلال الممارسة ( Praxis ) بمعناها التذاوتي والحر.

3 ـ إن هذا الفعل يلزم أن يجد له من يحفظه من شهود يحفظون ذكراه؛ أي تأريخه وتوثيقه.

وينتج من ذلك أن السياسة هي أعلى مجالات مستويات الفعل وأشكاله، بوصفها الفعل بصفة عمومية. أي الدوام بالفعل المجدد، على خلاف نزعة المحافظة التي تعني إبقاء الحال كما هو؛ إذ لا تصدق نزعة الحماية الأخيرة هذه إلا على حال التنشئة والتربية في المجتمع أو الأسرة وليس في النشاط العام.

وقد يبدو الأمر مشوشاً في فكر آرنت عند محطة التربية حينما نجدها تبني عليها آمالاً سياسية، وليس التشويش ذلك في طبيعة العلاقة وإنما في تحديدها للتربية بأنها نزعة محافظة، لنفحص قولها : «إن النزعة المحافظة بمعنى المحافظة على الوضع القائم، هي جوهر التربية» (33) ، مقارنة بقولها: «لقد ولجنا هذا العالم عن طريق الولادة ، وبفضلها يتجدد العالم باستمرار. وتشكل التربية النقطة التي فيها ما إذا كنا نحب هذا العالم بما يكفي لنتحمل مسؤوليته، ونعمل على إنقاذه من هذا الخراب الذي سيؤول اليه حتماً، لولا هذا التجدد، ولولا وفود اليافعين الجدد عليه.... فبواسطة التربية نهيئ الأجيال الجديدة للقيام بمهمة تجديد عالم مشترك للجميع» (34) ؛ هذه النصوص في حقيقتها مصدر ذلك الأشكال في أنه إذا كان مجال التربية الشأن الخاص، فكيف عليها أن تؤدي غرضاً في الشأن العام؟ وإن كانت محافظة فكيف لها أن تسعى إلى الجدة؟

لعل قراءة متسرعة توحي بهذا الأمر، إلا أن تفحص النص جيداً يجعلنا نفهم التربية، بقدر نزعتها الدفاعية عن حال معينة، ونتأولها بحال الحفاظ على الصيرورة والاستمرار في محاولات الخلق للجديد الدائمة. بدافع الإيمان بالتقدم، وإمكان الحل والتطوير للإمساك بزمام الأمور وبأيدي إنسانية فاعلة، بدل الانفلات الذي وضعتنا به الأداتية .

الفعل (Action) يقوم على أساس الحرية كما أشرنا لذلك سابقاً ، إلّا أنه يتضمن في حيز دلالته الخاص معنى التعدد والتضامن في فهم آرنت، والتعددية هي من أهم سمات الفعل بل أن بها ينكشف ويتضح معناها، فعلى الفعل أن يخلق الجديد ويعرضه أمام الآخرين الذين لايمكن الاعتزال عنهم، لأن الفعل بطبعه تذاوتي، وهنا تظهر التعددية بوصفها تكثيراً للجهات الفاعلة داخل فضاء الحرية وهو الضامن للفعل السياسي، كما في أداء الفنانين الذي يحتاجون إلى جمهور مستمع أو مشاهد، فمن دون الظهور ذاك في الفضاءات العامة ونيل الاعتراف من قبل الآخرين، ومن دون التعريف بالذوات ومشاريعها قولاً وفعلاً، لايمكن تأسيس الفعل السياسي الذي تتضح حاجته إلى التعددية كضمان آخر على الحرية. (35)

الفعل (Action) بوصفه نقاشاً ونشاطاً يهدف إلى الاتفاق لتسيير الشأن السياسي بأفضل الصور، إنما يتضمن (بمبادئه التي تُعنى بالحرية والمساواة) أن يخلق حساً مشتركاً يجسم المهمة وخطرها، لذلك فهي تنشئ نوعاً من التضامن، الذي يجب أن يخلقه الهم بالفعل السياسي وتدعمه التربية والتنشئة على ذلك الفعل وذلك الانهماك به، ما سيكون ظاهراً بقوة في كل لحظات التغيير السياسي، علاوة على مطلبها الأساس في الفعل كآلية ناجعة في المعالجة السياسية.

وبطبيعة الحال، فالافعال تتطلب الكلمات ـ الأقوال، لأن هذه الأخيرة هي التي تكشف اهداف ونوايا الفاعلين، وهذا يفسر معنى أن يكون الفعل تذاوتياً، والذي يتوقف على مدى استعداد المشاركين في التواصل للتفاهم المتبادل، ولذلك فإن المعيار في جودة الفعل هو التعددية والتضامن. (36)

وذلك التضامن الذي سيكشف بدوره عن نقضه الضمني لفكرة الحكم التي جلبها التراث السياسي بوصفه المعنى المحدد للسلطة، فقد وجهت آرنت نقداً لهذا التراث من زمن افلاطون إلى يومنا الحاضر، متمثلاً في تشخيصها للبس والخلط الحاصلين في فهم معنى الحكم والسلطة، وذلك الخلط الذي تعتقده سبب نتائج مدمرة للنشاط السياسي، على وجه الإجمال . فالحكم هو تقسيم المجتمع إلى من يصدر الأوامر ومن ينفذها ، أي إلى حاكم ومحكوم. وهذا التصور ـ بتعبير آرنت ـ ما هو إلا علاقة ماقبل سياسية، وليس في صلب الفعل السياسي؛ وبما أن التقاليد التي ألفينا بها تراث الفكر السياسي تقوم على فكرة الحكم، لذلك فإن آرنت تعده تراثاً هارباً وفاراً من السياسة . وفي مقابل فكرة «الحكم» وضعت فكرة «السلطة» لإعادة الفعل السياسي الحقيقي والدخول في النشاط السياسي؛ لامجاورته أو مضادته واصطناعه، وهذه الفكرة (أي السلطة) تعبر عن العلاقة بين الأفراد الذي يعدون أنداداً لبعضهم بعضاً، وبمبادرة أحدهم للفعل فإنه يجد في الآخرين إعانة على إنجازه ومن خلالهم، وتكون نتيجة اللجوء إلى فكرة «السلطة » إنتاجاً لتنظيم اجتماعي يحفظ مزايا الحكومة من طرف أول، ومن طرف ثان يحفظ حريات الأفراد التي كانوا يمتلكونها قبل إنشائهم الحكومة هذه وتلك إنما هي استعارات في حقيقتها من روسو . (37)

ولإنجاز فكرة التضامن تبحث آرنت في نصوص روسو لتقبض على معناه في المصلحة العامة، فقد كان روسو يتمنى أن يكشف عن «مبدأ جامع ضمن الأمة نفسها، يكون صالحاً للسياسة الداخلية كذلك. وعليه كانت مشكلته هي أن يجد عدواً مشتركاً خارج نطاق الشؤون الخارجية، وكان حله لها أن مثل هذا العدو موجود في صدر كل مواطن من المواطنين، أي في إرادته الخاصة ومصلحته» (38) ويكمن إبداع روسو هنا في أنه عكس النظرية التي ترى في الخطر أو العدو الخارجي أساساً ودافعاً للتضامن ليعيده إلى النفس البشرية وماتحتويه من ميل إلى المصالح الخاصة.

ومهمة التضامن أن يكون متمماً لفاعلية الفعل السياسي وسعيه للقضاء على مكابدة الطرف المستغَل أو الأضعف في المعادلة السياسية. ولذلك تكون المصلحة المشتركة بمثابة شرف للجنس البشري أو وقار الإنسان وعظمته؛ لأن التضامن يشاطر العقل في التعميم وهو يرتبط بتفهم إرادة ومطلب الأقوياء والأغنياء كما يتفهم مطالب وإرادات الضعفاء والفقراء. (39) وهنا تبدو مهمة الفعل (Action) بوصفها سعياً إلى خلق بيئة صالحة لتداول الأفكار والأقوال التي تعنى بالشأن العام بصورة شفافة وعلنية وحقيقية من طرف؛ وبصورة مسؤولة من طرف آخر.

الصفحات