أنت هنا

قراءة كتاب الفعل السياسي بوصفه ثورة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الفعل السياسي بوصفه ثورة

الفعل السياسي بوصفه ثورة

كتاب " الفعل السياسي بوصفه ثورة " ، تأليف مجموعة مؤلفين ، الذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 6

وإذا كانت آرنت ترى العنف (*) وليد عدم المعرفة بأهمية الشأن العام والفعل في فضائه من قبل بعض الناس مما يستدعي ذلك لديهم اللجوء إلى العنف بضديته على السياسة؛ تقول: «إنه لمن غير الواقعي ومن غير العقلاني أن تتوقع من الناس الذين لايملكون أدنى تصور لماهو الشأن العام أن يتصرفوا بشكل غير عنيف، وأن يتحاججوا بصورة عقلانية بالنسبة إلى ما يخص مصالحهم» (40) . ولذلك سيستدعينا النسق الآرنتي للتعريج إلى ماهية مضادات السلطة والفعل السياسي.

لكن، ما الذي حدث للمجال العام والسلطة والفاعلية السياسية؟ وما الذي جعلها تحمل معاني مغايرة لما ينبغي أن تكون عليه؟ أو ما الذي جعلها تنهار، بكلمة أخرى؟ وكيف الفعل لاستعادة تلك الحالة السياسية من التفاعل البينذاتي ومجاله العام وسلطته الحقيقية؟ هل العنف هو الحل الوحيد؟ هل من حل آخر؟ هذه التساؤلات هي التي تفتتح لدينا المطلب الثاني في بحثنا. وذلك في تحديد المفاهيم وتشخيص أعطاب الفكر السياسي من تراثه إلى معاصرته ومن أنساقه إلى تحولاته وحتى تشوهاته ـ إن صحت العبارة ـ؛ ومايقتضيه البحث من إمكانات التصحيح والاستعادة للمعنى الأصيل.

تداخل مفهومي وفرز واقعي

للسلطة والعنف والشمولية

في السلطة والعنف: نقد إقالة التفاعلية وكشف تبعيات الأداتية

إذا كان لابد لنا، وكما تدعونا لذلك آرنت، أن نفهم العنف مضاداً للسلطة، فما هي ماهيتها بالدقة؟ وما العنف؟ لعلنا بهذه الدعوة نحاول إنجاز الجهاز المفاهيمي لفيلسوفتنا، في محاولة لكشف الزيوف والالتباسات الحاصلة في فهمنا لمفرداته، والتي دخلت أطرنا الفهمية كمعايير، بسبب التراث التقليدي للفكر السياسي.

ترى آرنت أن السلطة إنما تعني: قدرة الإنسان، ليس على الفعل فقط، بل الفعل المتناسق. لذلك فهي ليست ميزة فردية وإنما تأخذ أبعاداً جماعية، لأن الجماعة قد تكون موضوعاً أو مصدراً لانبثاقها. وباختفاء الجماعة تختفي السلطة. (41) وهي هنا لاعلاقة لها بالأشياء والوسائلية كما أشرنا إلى ماهية الفعل في المطلب السابق. بينما العنف لديها بطبعه أدواتي؛ وهو: أداة ترافق ال قدرة، وبكلمة أخرى ، هو وسيلة لمضاعفة طبيعة القدرة. وهو محتاج إلى توجيه وتسويغ؛ توجيه إلى سبيل الهدف الذي يبغيه، وتسويغ من الطرف المستعمل للعنف (42) . وبالرغم من أن العنف لايعتمد على رأي عام أو وجود عدو معين، إلا أنه يقدم أدوات تزيد من القدرة البشرية. (43) لكن ما هي القدرة؟ لكي تضاعفها ويصبح الناتج عنفاً.

القدرة هي خاصية فردية، متعلقة بوجود شيء أو شخص، ويمكن أن تبرهن على ذاتها في العلاقة مع الأشياء والأشخاص الآخرين. فهي تمثل نوعاً من التميز والاستقلال لحاملها. (44) وذلك يعني وصفها مكسباً للمركز والقابلية والإمكانية التي يتمتع بها من يمتلكها. لكن ألا يستدعي العنف معنى القوة؟ ترد آرنت بالرفض النسبي، وتحديد العنف بجزئية للقوة. فالقوة: هي ما ينتج عن الحركات الطبيعية أو الاجتماعية من طاقة مؤثرة. وقد ترد بوصفها رديفاً للعنف، إذا فهمنا الاستعمال الأخير بوصفه وسيلة للإكراه وتلك هي صورة للقوة من صور أخرى. (45) لكن هذه القوة إنما تحتاج بصورتها الخضوعية مفهوما ً آخر حسب آرنت هو التسلط أو الهيبة، وهي تشير إلى أن من يمتلكها يصبح موضوعاً لذلك الخضوع دونما أي شروط ، من إكراه أو إقناع، ولذلك يشكل الاحتقار أو الازدراء العدو الأول لها. (46)

وفي عودة إلى التمييز الأساس بين السلطة والعنف يجب أن نفهم أنه يقتضي البحث في جوهرهما معاً، في مقاربة لما يحقق ماهيتهما، فنجد آرنت تقول إن:

«السلطة لاتحتاج إلى تبرير، انطلاقاً من كونها لا تقبل أي فصل عن وجود الجماعات السياسية نفسه. وماتحتاج اليه السلطة إنما هو المشروعية... تنبثق السلطة في كل مكان يجتمع فيه الناس ويتصرفون بالتناسق فيما بينهم، لكنها تستنبط مشروعيتها من اللقاء الاول، أكثر مما تستنبطها من أي عمل قد يلي ذلك. إن المشروعية، حين تجابه تحدياً، تسند نفسها في التوجه إلى الماضي، أما التبرير فإنه يرتبط بغائية تصله مباشرة بالمستقبل» (47) .

وهنا تتبين السلطة ومشروعيتها وتسويغها ، أما العنف فإنه قد يبرر على حد قول آرنت إلا أنه لن يجد أبداً ما يجعله مشروعاً إلا في حالة الدفاع عن النفس، وذلك حينما يبدو الخطر واضحاً على النفس فيصبح منطق الغاية تسوغ الوسيلة هو المعيار المعتمد. (48)

ومن الناحية السياسية ، لايكفي، حسب آرنت، أن نقول إنهما (أي السلطة والعنف) ليسا شيئاً واحداً، بل هما متعارضان، فحينما يكون أحدهما حاكماً يلزم غياب الآخر. والعنف إنما يظهر حينما تكون السلطة مهددة البقاء . وبإمكان العنف أن يتحكم بالسلطة إلا أنه عاجز عن خلقها . (49) وتؤكد آرنت الفعل المتجدد الذي يقتضيه الفعل السياسي، بوصفه مسطرة لتحديد الخط الفاصل بين السلطة والعنف، فهما لاينتميان إلى حيز الحياة الطبيعية، وإنما هما جزء من فضاء السياسة، الحيز الذي لايضمن إنسانيته إلا بإمكان الإنسان على الفعل والقابلية على البدء بالجديد دوماً. (50) هذا البدء بالجديد يعني اللاتخطيط الغائي/الوسائلي؛ فالعنف وسائلي يهدف إلى غاية من شأنها أن تسوغه. أما حينما نمارس فعلاً (Action) فإننا لن نكون عارفين ومتيقنين من أنه سيؤدي إلى نتيجة لازمة، (51) وذلك يعني أننا بحوارنا وحجاجاتنا في التداول للشؤون العامة نستعمل السلطة بوصفها ملاذاً لحفظ الفعل، بل هي الفعل نفسه.

قد تتبادر إلى الذهن رابطة دلالية بين العنف والإرهاب، إلّا أنه ليس كذلك بالدقة أو بصفة عامة . بل أن الحكومة التي تمسك السلطة مع وجود العنف بعد تدمير وتفتت كل سلطة، هناك حيث يرفض العنف التنازل عن مكانه في إخضاع كل شيء لسيطرته، هناك يبدو الإرهاب مرتبطاً بالتفتت الاجتماعي، ومن هذا المنطلق تفرق آرنت بين الأنظمة التوتاليتارية والأنظمة الديكتاتورية القائمة على العنف؛ في أن الأولى تقف مضادة لكل صاحب سلطة حتى الأصدقاء لها، وأن ذروة الإرهاب ستكون ظاهرة حينما تلتهم الدولة البوليسية أبناءها، بينما الديكتاتورية هي ضد من يعارض السلطة بشكلها المزيف بالحكم، وبالتالي فإن السلطة تنتفي مع الأنظمة التوتاليتارية لغياب فعل التناسق والبعد الاجتماعي فيها. (52) وسنعود لفهم العنف، بوجهه الآخر، في نوع من معقولية هادفة للتثوير ومن ثم لإعادة مكانة الفعل السياسي وتحرير السلطة في المطلب الأخير.

لكن هل من إجابة أخرى يمكن أن تقدمها لنا المجتمعات الحديثة؟ ولاسيما في وضع لايحتمل اليوم مزيداً من العنف . قد تمثل الإجابة بالإيجاب والتحديد بأنّ العصيان المدني فرصة لفسحة الأمل بالحياة دونما أدوات العنف المادية. فكيف تعاملت آرنت مع العصيان بوصفه حلاً لاستعادة الفعل السياسي؟ ألحت آرنت على أن العصيان المدني صورة لاعتراض الأقليات على إقصائها وتهميشها. ولذلك نجد أن القناعة تكون لمن يقبل شكل الحكومة والسلطة ف ي الدولة ويعارض الأقلية فتعمد لانتهاج هذا الأسلوب. وحقاً نرى أن ذلك يفتح فضاءً للحرية أكثر لإمكانية الحفاظ على الفعل السياسي قبل العنف أو بعيداً عن التعنيف الذي في لحظة حدوثه ينفي السلطة . لذلك نجد آرنت تقول: «إننا نتعامل مع أقليات منظمة، تقف ضد اكثريات ممتنعة عن التعليق، رغم أنها ليست «ساكتة»، وأ ظن أن من غير الممكن نكران أن هذه الأغلبيات قد غيرت أسلوبها وفكرها بدرجة كبيرة تحت ضغط الأقليات» (53) .

ولذلك فآرنت تنظر للعصيان المدني بأنه شرعي بقدر عدم تجاوزه الاتفاقات التبادلية بين الأفراد الأحرار بهيئة قانون، وهي العقود والمواثيق والفعل المتبادل، والميزة الأكبر للصيغة الأفقية لنظرية العقد الاجتماعي هي أن تلك التبادلية تلزم كل فرد تجاه مواطني مجتمعه. وهذا هو الشكل الوحيد لنظام الحكم الذي يلتزم فيه المواطنون مع بعضهم ليس من خلال الذكريات التاريخية أو التجانس الإثني، كما هو الحال في دولة الأمة، ولا من خلال النظام الديكتاتوري لهوبز، الذي «يرهبهم جميعاً» وبذلك يوحدهم، بل من خلال قوة العهود المتبادلة. (54) وتلك هي القناعة التي تكمن في الصيغة الأفقية للعقد الاجتماعي، وليست بموجب قرارات الأغلبية. (على النقيض من ذلك، كان تفكير الكثير من واضعي الدستور ينصب على حماية الأقليات المعارضة.) ويشبه المحتوى الأخلاقي لهذا الاقتناع المحتوى الأخلاقي لجميع الاتفاقات والعقود؛ فهو يتضمن الالتزام للمحافظة عليها. وهذا الالتزام متأصل في جميع العهود . فكل منظمة إنسانية، سواء كانت اجتماعية أو سياسية، تعتمد بشكل تام على قدرة الإنسان على تقديم العهود والالتزام بها. الواجب الأخلاقي الوحيد المباشر للمواطن هو تلك الرغبة الثنائية الأبعاد لإعطاء الثقة والمحافظة على الضمانة الموثوقة لعقده المستقبلي والذي يشكل الحالة ما قبل السياسية لجميع المزايا الأخرى، خصوصاً السياسية . (55) وأي خرق لتلك القناعة يستدعي ظهور التمرد والعصيان.

الصفحات