أنت هنا

قراءة كتاب الفعل السياسي بوصفه ثورة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الفعل السياسي بوصفه ثورة

الفعل السياسي بوصفه ثورة

كتاب " الفعل السياسي بوصفه ثورة " ، تأليف مجموعة مؤلفين ، الذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8

ويمكن تمييز مرحلتين للتوتاليتارية تتجلى الأولى في الحركة، والثانية في الدولة أو النظام التوتاليتاري:

«تتشكل الحركة التوتاليتارية بالأساس من تنظيمات جماهيرية، تضم اليها أفراداً مبعثرين ومعزولين. أما الميزة الأظهر تمييزاً لها عن كل الأحزاب والحركات الأخرى، فتكمن في اقتضاء الولاء اللامحدود، وغير المشروط وغير المتبدل، من قبل المناضل الفرد إزاء حركته... وإن ولاءً كهذا لايمكن توقعه إلا من كائن بشري معزول بالكامل، كائن مجرد من روابطه الاجتماعية، ا لتي تصله بعائلته وأصدقائه ورفاقه أو محض معارفه، فرد لايستشعر نفعه إلا من خلال انتمائه إلى حركة أو حزب» (65) .

وتبقى الجماهير هي الأداة الأبرز في الحركة والنظام، فأصل إمكان وجود الحركة التوتاليتارية مقترن بوجود الجماهير، والتي تراها آرنت كاشفة عن شهية لاتقاوم في طبيعتها للانتظام السياسي وتقديم الطاعة والولاء دونما وعي بمصالح مشتركة، لذلك فالجماهير صفة حسب آرنت:

«تنطبق على الناس الذين عجزوا لسبب أعدادهم المحضة ، أو لسبب اللامبالاة، أو للسببين المذكورين معاً، عن الانخراط في أي من التنظيمات القائمة على الصالح المشترك، أكانت أحزاباً سياسية ، أم مجالس بلدية أو تنظيمات مهنية أو نقابية. توجد الجماهير ، وجوداً بالقوة، في كل البلدان وتشكل غالبية الشرائح العريضة من الناس الحياديين، واللامبالين سياسياً، والذين نادراً ما يصوتون ولاينتسبون إلى أي حزب» (66) .

هكذا تبدو اللامسؤولية هي جوهر مفهوم الجماهير وواقعها؛ لكن ثمة إشكالاً يطرح في إطار فحص السيكولوجيا الجمعية للجمهور: كيف يمكن للمستقيل سياسياً أن يعلن ولاءه التام لأوامر تصدر باسم الهيئة السياسية ـ الحاكمة؟ ألا تلزم تلك الاستقالة أن يقدم ولاء مثل ما تقدمه الجماهير بلا شرط أو قيد؟ بل على العكس نجدهم يسعون إلى أن يكونوا جزءاً من ماكينة الكليانية تلك! لم تكن آرنت مهتمة بهذا الإشكال وإنما حاولت تسليط الضوء على الدور الذي يؤديه الحاكم (حزباً أو دولة) في تحريكه لهذه الجماهير وتعبئتها وزجها في التضحية من أجل ديمومة دوران عجلة الحركة والنظام التوتاليتاري.

وقد راهنت الحركات التوتاليتارية على تغريب المجتمع، والإجهاز على إمكانية الفعل الحر، ووجود السلطة فيه؛ ولطالما أوحت قبل تسلمها لزمام الحكم أنها تسعى «إلى إقامة عالم منسجم مع عقائدها، بإيجاد عالم متوهم ومتسق العناصر، عالم يرضي حاجات النفس البشرية أفضل من الواقع نفسه، ذلك أن الجماهير المقتلعة ، إذ تدخل إلى هذا العالم بمحض المخيلة، وتستشعر فيه الأمان المنزلي وتجد نفسها في منجى من الضربات المتواصلة التي تكيلها الحياة الواقعية والاختبارات الحقيقية للكائنات البشرية ولآمالها» (67) . ولايمكن تحقيق ذلك الفوز بالرهان إلا بأداة الحملة الدعائية التي تعمل على قطع العلاقة بين العالم الواقعي والمتخيل الذي تصنعه التوتاليتارية وذلك من قبل استلام السلطة، لتتممها في كونها نظاماً حاكماً فتسدل الستار على ذلك الواقع لكي لايعكر أحدهم سكون عالم الرعب وصمته الذي تبنيه التوتاليتارية من متخيلها. (68) وتقع على كاهل تلك الدعاية والمنهجيات التوتاليتارية المرافقة لها، مهمة تلطيف وتليين ادعاءات الحركة الثورية قبل بلوغ الحكم وتولي زمام المسؤولية، وذلك بتدمير العالم المتوهم لتنظيماتها وجعلها تذوب في عالم الطاعة والانقياد دوماً. (69)

لكن الحقيقة أن ما نسميه بالدعاية إنما هو تلقين وغسل للعقول وإعادة تأهيلها ، وأداة ذلك كله هو العنف لتحقيق المزاعم الإيديولوجية وإثباتها. (70) وذلك يعني الكذب باسم المبدأ، لذلك تبَّرز آرنت نتوءات التحول في معنى السياسة وممارسة الكذب فيها، فترى أن الكذب بوصفه طريقاً سياسياً لم يكن بالأمر المألوف في التقليد السياسي، أما في وقتنا الراهن فقد نجح نجاحاً تاماً في البلدان التي حُكمت حكماً توتاليتارياً، لأن الكذب فيها يوجه إيديولوجياً، وتحقق ذلك النجاح بالإرهاب لا بالاقتناع، ولذلك كان الكذب باسم المبادئ وعلى المبدأ نفسه أيضاً هو سبب تخلف العقل السوفياتي؛ فالمظهر الحاسم لذلك الكذب (الإرهابي) هو الذي جعله ينتهك عالم السياسة بجرائم فظيعة. (71)

ومما لاشك فيه أن الإيديولوجيا في كثير من قسماتها إنما هي دعوة توتاليتارية: (72)

1 ـ ادعاء الإيديولوجيات أنها قادرة على تفسير كل شيء، كتفسير الماضي تفسيراً كلياً، ومعرفة الحاضر معرفةً كلية، والتنبؤ بما سيكون عليه المستقبل بصورة معينة ومحددة.

2 ـ إن الفكر الإيديولوجي إذ يدعي تفسير كل شيء، فإنه لايؤمن بأي اختبار يكون من شأنه أن يأتي بجديد، ولذلك فهو يقود نحو تصورات لعالم آخر وراء ما هو محسوس، ويحاول أن يجعله أكثر حقيقة من خلال التلقينات الإيديولوجية.

3 ـ حينما يعجز الفكر الإيديولوجي عن تغيير العالم، فإنه يمضي في استكمال تصوره عن التحرر منه عن طريق نوع من الضبط المنهجي وفق آليات منطقية تصبح مسلمات للاستنتاج والحكم.

«رأت آرنت أن الجديد في الاتحاد السوفياتي الستاليني وألمانيا الهتلرية كان محاولة إنتاج إنسان جديد بشكل كامل. وبخلاف الديكتاتوريات السابقة كان هذان النظامان مشادين على إيديولوجيا كلية وتعبئة جماهيرية واسعة، ومناورات منظمة، وتعليم عقيدي منظم ونظرة سياسية تكنوقراطية متسقة؛ وأراد الزعيم « Fuhrer » ذو الكاريزما أن يخلق إنساناً جديداً ومجتمعاً جديداً تماماً كما يشكل الحرفي الذي يعمل بيديه شيئاً من مادة خام لاشكل لها، أي كان البشر والمجتمع مثل المعجون في يدي الزعيم! ففي هذين النظامين الكليين حُوّلَ الفعل إلى إنتاج أي ح ُوّلَ الفعل « Praxis » إلى « Poiesis »». (73)

ولذلك فالإيديولوجيا بادعاءاتها السابقة رافقت النازية والبلشفية والفاشية، بوصفها أعتى الأنظمة التوتاليتارية في القرن العشرين. من فكرة الأمة الهيغلية إلى الشخصية السوبرمان مع نيتشه وتوظيفها في العقيدة النازية، وخطابات هتلر، أو مقاربتها معه ، أو الدعوة القومية للدولة القوية مع مكيافيلي والتي أسندت (بالاستعارة ) موسوليني في ايطاليا، أو ديكتارتورية البروليتاريا مع ستالين، وفي كل هذه الأشكال التوتاليتارية وكلما بحثنا في إطارها الإيديولوجي سنجد أن هنالك مسوغات جمة على شكل منظومات معرفية، قد تبدو مخططاً شريراً جذرياً. الشر الجذري في أصل العقيدة والإيمان الإيديولوجي بها في سبيل إلغاء الآخر لا بل إلغاء الذات من أجل الواحد البطل! وذلك هو ما يلتصق بالنظام والحركة سوياً.

حينما تمسك الحركة بالسلطة وتحاول صنع نظام توتاليتاري فإننا سنفرق بين الحزب والدولة مفهومياً، إلا أن الواقع سيكون متداخلاً وصعب التحديد، لكن آرنت حاولت أن تضع حداً يتجسد في الديكتاتور التوتاليتاري الذي يمكنه، بل ينبغي له أن يمارس الخداع والتوهيم وبطريقة منسجمة مع منصبه أكثر مما يتسنى ويمكن لقائد الحركة. (74) وهذا الفارق ، علاوة على فارق إمساك زمام أمور الحكم، هو الذي يحدد جغرافية الحركة والنظام مفهومياً. لكن يجب علينا أن نقف عند إشارة مهمة جداً لآرنت هنا وهي أن الحركة التوتاليتارية وبهيمنتها على السلطة والتي لن تنقلها إلى غيرها لاتكتفي بصورتها الجديدة وتنفي وجودها كحركة، فانتزاع السلطة باستعمال العنف ليس هو الغاية، وإنما وسيلة ومرحلة انتقالية وليس نهاية لتلك الحركة، ويبقى هدفها الحركي هو العمل على تحصيل أكبر عدد مممكن من المنتظمين تحت لوائها، أما هدفها السياسي الذي يلزم أن يكون خاتمة لعملها ، فلا وجود له بكل بساطة! (75)

ومتى ما أمكن للتوتاليتارية أن تتسلق سدة السلطة، فإنها تولد شكلاً جديداً ومؤسسات مغايرة كليا ً لما كان قبلها. وتعمل على تدمير كل التقاليد السياسية والاجتماعية والتشريعات القانونية القائمة في البلد. وتعمل على تحويل الطبقات الاجتماعية ، وصهرها، إلى جماهير مجردة لاتعي مهامها ولامسؤوليتها؛ وكذلك تقوم التوتاليتارية بوضع بديل لنظام الأحزاب وهو الحركات الجماهيرية؛ وتنقل السلطة من الجيش إلى الشرطة، مع وضع خطط تهدف إلى الهيمنة على العالم بوصفها سياسة خارجية. (76)

ولايسع النظام السياسي أن يكون قائماً، دونما تدمير مجال الحياة العامة وتدمير طاقات الناس السياسية (77) ، وكذلك يعول على البروباغاندا في غسل العقل الجمعي الجماهيري وتوجيهه وخداعه، ويسحب النظام معه إلى الحكم أدوات الحركة كشمولية السيطرة على حياة أفراد الدولة بكل أجزائها وفي كل مجالاتها، وفي ذلك يكون العنف هو الأداة الضاغطة تحقيقاً وإرغاماً وإنذاراً، فالعنف هنا بصورة الإرهاب وكما أشرنا من قبل في البحث أن الجماهير هي بيئة طيعة للسيطرة والطابع القطيعي، فقطيع اللامبالين يمكن سوقهم بالتلويح بالإرهاب وينجح الأمر بسبب بنيوي في طبيعتهم تلك.

تقول آرنت :

«إن الارهاب لايمكن أن يسود الناس مطلقاً، إلا في حال كونهم معزولين بعضهم عن بعض، وبالتالي فإن أولى اهتمامات كل الأنظمة الاستبدادية هي إحداث هذه العزلة. لذا يمكن أن تكون العزلة بدء الإرهاب؛ فهي الأرض الخصبة التي ينمو فيها الإرهاب، ويكون ثمرتها على الدوام. وبهذا المعنى تكون العزلة سابقة لإحلال التوتاليتارية؛ وقد تكون العزلة منطبعة بطابع العجز، بمقدار ما تنشأ السلطة دوماً عن أناس يتحركون معاً، «يعملون متوافقين»، إذن، ليس للناس المعزولين أية سلطة» (78) .

الصفحات