أنت هنا

قراءة كتاب الفعل السياسي بوصفه ثورة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الفعل السياسي بوصفه ثورة

الفعل السياسي بوصفه ثورة

كتاب " الفعل السياسي بوصفه ثورة " ، تأليف مجموعة مؤلفين ، الذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 7

وتشخص آرنت مكمن الخلل والداعي إلى العصيان والمقاومة، بأنه في الغالب مشكل دستوري في التشريعات التي تقع تحته، فثمَة جدل على أن القناعة بالدستور، الاتفاق الإجماعي، تتضمن قبولاً بالقوانين التشريعية أيضاً، لأنه في حالة الحكومات التمثيلية يكون الشعب قد ساهم في تشكيل تلك الحكومات. وهذه القناعة، من وجهة نظر آرنت، افتراضية (خيالية ) تماماً؛ قد فقدت كل جدارة لها بالتصديق. فالجمهورية التمثيلية نفسها هي اليوم في أزمة، في جزء منها بسبب كونها قد فقدت بمرور الوقت جميع المؤسسات التي كانت تسمح للمواطنين بالمشاركة الحقيقية، وفي جزئها الآخر لأنها قد تأثرت بشكل كبير نتيجة المرض الذي يعاني منه النظام الحزبي، فالخطر الحالي للتمرد، هو الأزمة الدستورية في المقام الأول، وقد تأثرت تلك الأزمة بعاملين مختلفين بشكل كبير، واللذين تسببت عواقبهما المؤسفة ب حدة معينة فضلاً عن تشويشات عامة حول الدستور:

ـ التحديات المتكررة للدستور من جانب الإدارة، وما يعقبها من فقدان الثقة بالعمليات الدستورية من جانب الشعب، ويعني ذلك، سحب القناعة .

ـ عدم الرغبة الأكثر تطرفاً لقطاعات معينة من الشعب بالاعتراف بالاتفاق الإجماعي (56) . ومشكل الاعتراف بالتعاقد الأصلي يبقى إشكالاً راهناً ودافعاً لكثير من حركات التمرد. ولذلك يحاول المتضررون من التشريع ومشكلة الاعتراف بالتعاقد الأصلي تأسيس تشكيلات تدافع عن مصالحهم الخاصة وتمثل جماعات مصالح وضغط.

ولذلك ترى آرنت أن العصيانات المدنية ليست سوى صورة محدثة للاتحادات الطوعية، وهي تتناغم مع التقاليد القديمة للولايات المتحدة الأميركية. ومن أفضل ما يصفها نجد كلمات توكيفيل: «يتحد المواطنون الذين يشكلون أقلية أولاً من أجل إظهار قوتهم العددية والتقليل من القوة المعنوية للأكثرية»؟ وبالتأكيد فقد مر زمن طويل قبل أن تظهر إلى الوجود «اتحادات معنوية و فكرية» من بين الاتحادات الطوعية والتي هي على النقيض ، فتبدو أنها قد تشكلت من أجل حماية المصالح الخاصة، لمجموعات الضغط واللوبيات التي تمثلها في واشنطن. وليس هنالك من شك في أن السمعة المريبة للّوبيات هي مستحقة، مثلما أن السمعة المريبة للسياسيين قد أصبحت بكل وضوح مستحقة أحياناً . ومع ذلك، فالحقيقة أن مجموعات الضغط هي أيضاً اتحادات طوعية، حيث إن تأثيرها كبير لدرجة تكفي لأن يطلق عليها «حكومة مساعدة». (57)

وتنتقد آرنت سلوك المحاكم في اعتبارها العصيان المدني جزءاً من المؤامرة، وإن خارق القانون الوحيد الذي تعده المحكمة غير مجرم هو المعترض الضميري، وما يسمى بـ « المؤامرة» و هي تهمة مضلِّلة إلى حد بعيد بحق العصيان المدني في هكذا حالات، تتطلب ليس فقط «التنفس جماعياً» بل السرية ، بينما العصيان المدني عكس ذلك فهو يحصل في العلن . (58) أي أن الفارق بين العصيان والمؤامرة يلزم أن يكون واضحا ً، حيث يكون الأول علنياً ومباشراً وموجهاً للسلطة لأسباب أصلها الإخلال بالاتفاق العام أو عدم الرضا عنه، والمؤامرة هي أعمال لاقانونية تهدف إلى الإطاحة أو التخريب بالمنظومة السياسية لأهداف جماعات لاتهدف إلى التحسين وإنما إلى التغيير بالمطلق، وكل ذلك سريٌ، وغالباً ما تأخذ أبعاداً أجنبية.

ولمعالجة ذلك الميل الخطير للجهاز القضائي، ترى آرنت إمكان الجدوى في إقامة عصيان مدني بين مؤسساتنا السياسية بوصفه علاجاً لهذا الفشل التام للمراجعة القضائية. فالخطوة الأولى تكون بنيل الاعتراف بالأقليات التي يحق لها القيام بالعصيان المدني نفسه الذي يمنح للمجموعات العديدة ذات الهدف الخاص (مجموعات الأقليات) في البلد، والتعامل مع مجموعات العصيان المدني بطريقة التعامل نفسها مع مجموعات الضغط، و التي يسمح لها، من خلال ممثليها ـ وهم اللوبيات المسجلة ـ بالتأثير في الكونغرس و«مساعدته» عبر وسائل الإقناع، والرأي المؤهل والعديد من مؤسساتها. قد تكون الأقليات الفكرية هذه قادرة على فرض نفسها كقوة ليست فقط «ينظر لها عن بعد في التظاهرات وعرض وجهات نظرها علنياً، بل أيضاً حاضرة دائماً ويحسب لها الحساب في الشؤون اليومية للحكومة ». وتكون الخطوة التالية الاعتراف العلني أن التعديل الأول لا يغطي حق الاتحاد لا في لغته ولا في روحه ـ كما يطبق عملياً في البلد ـ وهذا الامتياز الثمين والذي أصبح تطبيقه (كما لاحظ توكيفيل) «يترافق مع تصرفات الناس وعاداتهم» منذ قرون. فإن كان شيء ما بحاجة إلى تعديل دستوري عاجل ويستحق الصعوبة التي ترافقه فهو بالتأكيد هذا الالتزام. ربما كانت ثمة حاجة طارئة قبل أن نتمكن من العثور على موطن للعصيان المدني، ليس فقط في لغتنا السياسية، بل في نظامنا السياسي أيضاً. إن الحاجة الطارئة هي في متناول اليد بالتأكيد عندما تفشل المؤسسات القائمة في البلد في العمل بشكل مناسب وتفقد سلطاتها قوتها وهي تلك الحاجة الطارئة التي أبدلت اليوم في الولايات المتحدة الاتحاد الطوعي بالعصيان المدني وحولت القناعة بالمقاومة (59) .

ها نحن أمام إمكان الاختلاف في إمكان التحسين والتغيير للسلطة القائمة وممارساتها وأصولها، ولذلك نجد أنفسنا ملزمين باختبار نموذج التوتاليتارية لنفحص مقولات آرنت فيها وعن إمكان الخلاص من تمييعها وصهرها للفعل السياسي وإنجاز بحثنا في إمكان إرجاع السلطة لفضائها، وتحرير الإنسان من كبت هذه التغريبات.

في نقد التوتاليتارية (*) : حركةً ونظاماً وممارسةً

أو من المخيال عن جذرية الشر إلى واقعية تفاهته

يعد كتاب آرنت الموسوم بـ « أسس التوتاليتارية» ـ 1951 المنجز الأهم الذي دفعها لتحتل مكانتها في مصاف النخبة الفكرية في النصف الثاني للقرن العشرين، أحاول هنا أن أربط هذا النتاج بالنسق الفلسفي لها في كونها خطوة متممة لفهم مجريات التحول من الوضع الطبيعي للسلطة إلى امتيازها بالعنف وخروجها من حيزها المفروض إلى واقع مخالف له في جعلها أداة هيمنة، أو صورة حكم.

فقد عملت التوتاليتارية حركة ونظاماً على تهديم وسائط المجال العام ومايخلص به من رأي عام وتجسيد لإرادة السلطة، وذلك أدى إلى خلق مناخ متدهور للرأي القائل بجعل الناس «راغبة في دفع الثمن على شكل تأييد لقيام دولة بوليسية، تمارس إرهاباً خفيا ً هدفه أن يسود في الشارع شعار «القانون والنظام» (60) . لعل هذا الشعور هو الذي دفع بعجلة التوتاليتارية إلى أن تنجز مهمتها في القضاء على فاعلية المجتمع وتحويلها إلى انصياع تام لتلك الهيمنة الكُليانية.

تهدف التوتاليتارية إلى القضاء على الفعل الإنساني ، فسيطرتها «تنحو إلى إلغاء الحرية الموصوفة، بل تميل إلى القضاء على كل ظاهرة عفوية بشرية عامة ولاتكتفي بتقليص الحرية، أيا ً كان مبلغ الاستبداد في ذلك... إن النظام التوتاليتاري هو غياب كل سلطة أو تراتبية من شأنها أن تعيّن نظام الحكم» (61) . وأتمّتْ التوتاليتارية خطتها في الاستحكام والإقالة للفعل السياسي، بخلق تصور لدى الجماهير (بمعناها السلبي المتشظي) يقضي بأن ثمة أوهاما ً وخدعاً جلبتها الديموقراطيات الغربية ويجب فضحها ومحاربتها، وبالنتيجة الانتماء لحركة توتاليتارية بالضد منها. من هذه الأوهام أن الشعب يشارك بأغلبه في صنع القرار وبصورة فاعلة وذلك عبر تأييد هذا الحزب أو ذاك، والوهم الآخر هو تصوير هذه الديموقراطيات للجماهير على أن هذه الأخيرة ليست على قدر من الأهمية لكنها عبارة عن لوحة صماء في الحياة السياسية (62) .

هنا تبدأ الجماهير بتقديم قرابين الولاء والطاعة، تصوراً منها أنها بدأت تمسك زمام الأمور. ولم يكن ذلك ليحصل (أي خلق هذا التصور) إلا من خلال منهجيات وبرمجيات صهر وتلقين ودعاية كانت تمثل العمود الفقري للتوتاليتارية . فهذه المناهج من حيث كونها تقنيات في الحكم «تتبدى في بساطتها ذات فعالية حاذقة. فهي لاتوفر احتكاراً للسلطة مطلقاً فحسب ، بل ثقة لانظير لها: في أن كل الأوامر ينبغي أن تنفذ على الدوام». (63) ولذلك عولت التوتاليتارية على الجماهير بوصفها الصورة البديلة للمجتمع بتمايزاته، واستبدالها بتلك الهلامية من الذوبان والانفلات والضياع الذي تمثله هذه الجماهير. لذلك وصفت آرنت نتاج التوتاليتارية بأنه إقفار : الذي هو أشد من الوحدة، لأنها ليست عزلة فقط، وإنما فقدان الأنا ـ الذات بالأصل. (64) وهذا ما يوفره مناخ الجمهور وتعيد إنتاجه الحركة التوتاليتارية لتحصيل السلطة أولاً واحتكارها ثانياً.

الصفحات