كتاب " الفعل السياسي بوصفه ثورة " ، تأليف مجموعة مؤلفين ، الذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الفعل السياسي بوصفه ثورة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الفعل السياسي بوصفه ثورة
إنَّ تحديد ماهية الإنسان مقابل الغير لايعني اللامساواة وإنما التميز، إن التميز يعني امتلاكك لصفات تكتسب بالعيش والخبرة، وليس بما تمتلكه بالولادة، فالمساواة هي جوهر الوضع الإنساني المنتج بتعلقه بالفعل السياسي، وهو ما ستدفع به آرنت لكي يكون مبدأً لذلك الفعل، بينما تدع التمايز قائماً في الحيز الاجتماعي. الأمر الذي يخيل بصورة عمل ذات وجهين: الأول، سياسي يلتزم فكرة المساواة في الحق والفعل والإسهام كمكتسب يلزم توافره لدخول الحيز أو المجال العام؛ والثاني، اجتماعي يلتزم التمايز بوصفه ملتصقاً بنشاطات خاصة وليس بنشاطٍ عامٍ كما في الحيز السياسي، لكن الأمر هذا ليس خالياً من الإشكال والضبابية في المعنى، فالحيز الاجتماعي هو نفسه المساهم عبر تلك الذوات المشكلة له في الحيز السياسي. لكن قد يكون المخرج في أن آرنت قصدت أن يكون التمايز مصطنعاً والمساواة أصلية أو طبيعية . وفي ذلك نقد واضح لما جاء به أرسطو في دفاعه عن نظام العبودية بوصفه نظاماً طبيعياً. ولذلك فالاجتماعي يأخذ بعداً في الضرورة والاختلاف. أي أن الاجتماعي يؤخذ بصورة الخاص أو ما تسميه آرنت بمايجب أن يكون حميمياً، «فكلما ألغى المجتمع الحديث الاختلاف بين ما هو خصوصي وما هو عمومي، بين ما لايمكنه التفتح إلا في الظل ومايقتضي الظهور أمام الجميع تحت الأضواء الساطعة للعالم العمومي، أو بصيغة أخرى، كلما وضع المجتمع بين ما هو عمومي وماهو خصوصي دائرة اجتماعية يتحول فيها هذا إلى ذاك وبالعكس» (17) ، إذ تميز آرنت بين السياسي والاجتماعي في جعل الاول دليلاً على النشاط الإنساني العلني والتعددية وعالم اللامتوقع الحر؛ بينما الاجتماعي هو عالم الحاجة إلى الكسب والمعيشة والإطعام وتوفير المؤن، فهو عالم ضرورة. (18) أي أن ما هو اجتماعي يأخذ ذلك الضروري بصورة الإبقاء في حيز «الخاص»، وقد أنتج العصر الحديث خرقاً لهذا الفهم فحصلت أزمة ابتلاع السياسي/ العام من خلال الخاص؛ وذلك بهيمنة الاقتصادي الذي هو مكمن تدبير عائلي إلى الحالة البشرية العامة التي تسبح في فضاء الحرية والتفاعل. وهنا يمكن أن نؤشر على معنى الاستبداد الذي سحب تاريخياً من نطاق العائلة والخاص إلى الحيز السياسي، في مجاوزة دفعت الأمم نتيجتها، فكلمة المستبد « Despot » في أصلها تعود للجذر اليوناني « Despots » والذي يعني رب الأسرة ومدبر شؤونها، أو القائم عليها (19) ، والاختراق الذي حصل في هذا الانتقال يوضح ما أشارت له آرنت في اختراق الاجتماعي للسياسي بصورة واضحة. وذلك قد يبين معنى الراعي الذي يتضمن في الأدبيات الإسلامية. والمشكل نفسه يجر إلى هذا المعنى في ثقافتنا.
وبما أن الأفعال « Actions » تتضمن نوعاً من الفذلكة أو البراعة، وذلك ما يتعلق بالفن، في روحية الإبداع فيه، فإننا نجدها تميل إلى تعريف السياسة بوصفها فناً، خلافاً للتصور القائل بأنها علم، وليس المقصود هنا أنها عمل فني، كما يُتوهَم مع المعنى الحرفي للكلمة، وإنما هو قول يُحمَل على المجاز، أي على البعد الإنساني الإبداعي ومستوى الفعل المنتج في أفق الحرية. والمؤسس بالتالي لمعنى الدولة. (20) وثمة تصور للفعل « Action » الذي تقصده آرنت يأخذ شكل هجنة بين السياسة والفن: فصورة آرنت للفضاء العام هي أشبه بفكرة المسرح؛ الذي يعنى بالتطلع إلى الجمهور وكشف الشخصيات المسرحية عبر الاقوال والافعال الممارسة أمامهم، وغياب ذلك الوضوح أو تلك الإنارة للفعل هي هدف وواقع الحياة في الأنظمة الشمولية، (سنعرج عليها لاحقاً في البحث)، ذلك الغياب الذي سببه انعدام ذلك التواصل بل وانتفاء معنى المجتمع أيضاً. (21) . وفي هذا التصور «لاتبتعد آرنت،كثيراً، عن التصور الكانطي؛ فهي تمنح للفعل قيمة أدائية ( Praxis ) شبيهة بالفنون التنفيذية من عزف ورقص وعرض، فليس غريباً إذا كانت ترى في التراجيديا الإغريقية الصورة المثلى في وصف السياسة، لأن جوانب المسرح والعرض الفني تليق بشكل وافٍ بالفعل كأداء وليس كأثر أو غاية راقية» (22) .
ولذلك نجد ريكور (*) يفهم محاولة آرنت بأنها: رهان لاستخراج تصور للسياسة بهيئة نظرية في الحكم الذوقي ـ الفني، وذلك أجدى من ربطها بنظرية في الحكم الغائي بوساطة فلسفة في التاريخ (23) ، وعليه، فقد استطاعت أن تشكك وبصورة مشروعة في إمكانية حجب السياسي من طرف الاجتماعي بشكله البسيط في فلسفة التاريخ وحتميتها والتي يتصورها ريكور تابعة لفلسفة الطبيعة وموجهة قصدياً باتجاه المستقبل للإنسانية. (24) وخطر الاحتكام إلى فلسفة التاريخ عوضاً عن نظرية في السياسة كما في الـ (Polis) إنما هو أن الأولى لاتنظر للمواطنين كأشخاص متميزين ومنفردين، بل أن موضوعها هو كلية الجنس البشري. (25) ونحن نعي أن مسألة التحكم أو القول بمسار حتمي لتاريخ الإنسانية إنما هو نوع من عالم الضرورة، وقتل الحرية. بينما المطلب هو كيف نحافظ عليها في خضم اقتحامات ذلك الضروري لعالمها والتعامل مع التعدد فيها الذي يقتضي الاعتراف بفردانية البشر فيها وأهمية تفاعلهم.
فثمة تطور مهم وخطير، في الآن نفسه، يحمل نقيضين: (26)
ـ الاول، في الاعتراف بأن الدائرة الاجتماعية ضرورية وأمر مطلوب ومرغوب به، وذلك بالقدر الذي يسمح للأفراد أن يطوروا فروقهم أو تميزاتهم وفرادتهم. وذلك بتأكيد شخصياتهم.
ـ الثاني، أن هنالك دماراً سيلحقه هذا التطور للدائرة الاجتماعية، وهو يكشف نفسه بالتدخل في دائرة النشاط العام.
ونتيجة لما سبق، حاولت آرنت أن تكشف عن تحول عظيم الأثر في فهم الحرية والمساواة؛ بما هما صفتان للعالم السياسي والمجال العام، فهما لم تكونا مبدأين أصيلين في الطبع الإنساني مع دولة المدينة، وإنما مكتسبتان بفضل القانون وصفة المواطنة، بينما تحول ذلك الفهم إلى معكوسه مع العصر الحديث، إذ يقرر أن الحرية والمساواة صفتان ملازمتان للطبيعة البشرية منذ الولادة، وأن المؤسسات الاجتماعية والسياسية هي التي خلقت التفاوت والقيود، ولذلك أصبح موضوع الثورة مرتبطاً بمطلب التحرر وإعادة الأمور إلى نصابها مع الزيادة في التنظيم لها. (27) ولذلك ستمثل الثورة وجهاً آخر لفهم الفعل الإنساني لأن ماهيته تجر معها كل معاني البدء من جديد والولادة والإبداع والخلق الحر والجدة.
تقول آرنت: «إن قدرة الإنسان على الفعل هي التي تجعله كائناً سياسياً؛ وهي التي تمكنه من أن يلتقي بأمثاله من البشر وأن يفعل معهم بشكل متناسق، وأن يتوصل إلى تحقيق أهداف ومشاريع، ما كان من شأنها أبداً أن تتسلل إلى عقله... لو أنه لم يتمتع بتلك الهبة: هبة السباحة نحو آفاق جديدة في الحياة» (28) ، أي أنه يأخذ، وبتعددية الأفراد كبيئة للتفاعل، بهيئة نقد لكل أشكال القسر التي يتضمنها معنى هيمنة طرف من الناس على الآخرين بشكل الحكم، ولذلك نجد آرنت تحدد ثلاثة تعبيرات خالفت ونقضت تقاليد التراث الغربي السياسي الآنف الذكر، وهي (29) :
1 ـ تعبير الفعل (Action) بوصفه بداية بالجديد « الابتداء»، كما مع الإغريق.
2 ـ التعبير التأسيسي بوصفه نتاجاً لذلك الفعل، كما جاء مع الرومان.
3 ـ التعبير المسيحي عن الفعل والمسامحة (الصفح) وهو يرتبط بلزوم المعرفة بأننا إذا قمنا بالفعل فإننا يجب أن نكون مستعدين للمسامحة.
وهذه التشكلية التجديدية، والتأسيسية والتسامحية: هي ماهية الفعل السياسي الذي تبني آرنت عليه كل آمالها في استعادة كنز السلطة المفقود.
بقي لنا ولإكمال النسج الآرنتي أن نبين أن هنالك اختلافاً بين عالم الفعل (Action) وعالم الكدح (Labor) والعمل (Work) ، فعالم الفعل هو عالم الحرية كما أسلفنا، وعالم الكدح والعمل هو عالم الضرورة لأنه محكوم كما ضمَّنا آنفاً بالمطلب الاستهلاكي والإنتاجي الذي يتحكم فيه سلوك الوسائل والغايات لديمومة الحياة وصناعة أدواتها والفوز بمادياتها. لذلك يسمى عالم الفعل بالممارسة ( Praxis )؛ وعالم الكدح والعمل بالمزاولة ( poiesis) . والفرق بينهما أساسه الضرورة والتخلص منها . الفعل كما نريد أو القول كما ينبغي مع الممارسة؛ والسبب الأكثر وثوقاً مع المزاولة. (30)