أنت هنا

قراءة كتاب نزار مروة في عوالمه الثقافية وفي دروب حياته

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نزار مروة في عوالمه الثقافية وفي دروب حياته

نزار مروة في عوالمه الثقافية وفي دروب حياته

كتاب " نزار مروة في عوامله الثقافية وفي دروب حياته " ، تأليف كريم مروة ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

كان نزار ابن أبيه في سعة الثقافة وفي شكل التعامل مع مصادرها القديمة والحديثة. لكنه كان يتميز عن أبيه بامتلاكه اللغة الإنكليزية بإتقان. وكان، وهو طالب الرياضيات، صديقاً للموسيقى، يستمع إليها في معظم أوقات فراغه، ويدرسها ويغني ثقافته في مجالاتها. وهي ثقافة كنت أجهلها، رغم أنني كنت أمتلك متعة الاستماع إلى الموسيقى العربية والشرقية بشكل خاص. وهو ما لفت نظر نزار أيضاً واكتشف فيه مصدراً إضافياً لتعميق الصداقة بيننا. وقد أدهشني في نزار، إضافة إلى ذلك، أنه كان يدرس الموسيقى لوحده، من دون الاستعانة بأستاذ مختص، ليس تاريخها وحسب، ولا الآثار الكلاسيكية العظيمة لكبار الموسيقيين وحسب، بل كذلك دراسة النوتة. بل هو مارس أيضاً العزف بالتعلم الذاتي على الناي والفلوت البسيط. وكان «السردابـ«، أي الطابق السفلي تحت الأرض، المكان الذي كان يمارس فيه تلك الهواية كي لا يكون العزف في فترة التمرين مصدر إزعاج لأفراد العائلة. وكان أحب الموسيقيين الكلاسيكيين إليه موزار، الذي كان معبوده. ولكثرة ما أسمعني من سمفونياته ومن المقطوعات المنتقاة من أعماله الموسيقية أصبحت لفترة من الزمن مهووساً مثله بموزار العظيم هذا. لكن حبه لموزار لم يغيب قط اهتمامه بكبار الموسيقيين الكلاسيكيين، وفي مقدمتهم بتهوفن. وكان اهتمامه هذا بالموسيقيين الكبار وبالموسيقى العالمية بشكل عام يستند إلى ثقافة موسيقية عالية منذ ذلك الزمن المبكر، وإلى موهبة رفيعة عنده كانت تغتني وتتعمق بهذه الثقافة. ولكم جرت بيننا من أحاديث في تلك الفترة حول هذه الشؤون الثقافية كلها، ومنها الموسيقى. غير أنني لم أضع أمامي منذ البدء مهمة الغوص في عالم الموسيقى. إذ اخترت أن أبقى في حدود حب الاستمتاع في سماع القطع الموسيقية الجميلة على أنواعها، ومنها بالأخص الموسيقى الكلاسيكية. وكان مصدر ثقافتي هذه هو نزار بالذات الذي ظل حتى آخر لحظة من حياته مصدر هذه المعرفة عندي، والمرجع الذي أعود إليه في تحديد ما له علاقة بالموسيقى في مكتبتي الموسيقية المتواضعة، التي أدين له في تكونها، وفيما بقي منها خلال صعوبات المرحلة الطويلة التي اجتزتها من سني السفر المتواصل والتنقل بين البلدان والأمكنة في أرجاء العالم الواسع، ومن سني الحرب الأهلية البائسة في بلدنا الجميل المعذب لبنان.

كان نزار انطوائياً في طبعه. وكان ذلك واضحاً في طريقة حياته في ذلك الزمن، زمن الشباب الباكر في العراق. لكنه كان حين يقرر الدخول في مجتمع ما يصبح بسرعة نجماً متألقاً، لما كان يتمتع به من ظرف وسعة ثقافة ومرونة في التحول من حال إلى حال آخر مختلف. وكنت بطبعي مختلفاً عنه في هذا المجال. إذ كنت أجنح دائماً إلى توسيع علاقاتي مع الآخرين، رغم أن تربيتي البيتية وسط عائلة دينية شديدة الاحترام والتميز والمحافظة خلقت عندي، في البدء، نوعاً من الحياء، سرعان ما أسهمت في إخفائها، أولاً، ثم في إزالتها تدريجاً، ظروف الحياة والمسؤوليات التي تحملتها في مجالات مختلفة متعددة ميادينها في الوطن وفي البلدان التي زرتها وأقمت طويلاً في بعضها.

لم يكن التناقض بين طباعي وطباع نزار مصدر تناقض في الاهتمامات العامة، لا سيما في العلاقة مع أوساط المثقفين. على العكس من ذلك، فقد انطلقنا سوياً، وبتوجيه ورعاية من «أبي نزار»، في إقامة علاقات ثقافية مع عدد من الأدباء والشعراء والفنانين الشباب. لكن كان علينا أن نختار بعناية أشكال تحركنا واتجاهاته من أجل النجاح والاستمرارية في ذلك التوجه. وكان هاجسنا الرغبة في التعرف إلى الجديد والتعلم من الآخرين والاستماع إلى النقاشات والإسهام فيها قدر الإمكان. وكان علينا أن نكثر من زياراتنا لبغداد وضواحيها الجنوبية خصوصاً. فهي كانت المكان الأرحب لمثل هذا النوع من المعرفة وهذا النوع من العلاقات المتنوعة. كان الذهاب إلى بغداد من الكاظمية يتطلب منا سلوك طريق وحيد، يبدأ بعبور الجسر الخشبي فوق نهر دجلة، الذي يصل الكاظمية بالأعظمية. وكان يتطلب منا ذلك تغيير وسائل النقل من حافلة إلى أخرى لكي نصل إلى قلب العاصمة في باب المعظم أولاً، ثم شارع المتنبي وشارع الرشيد، ثم عبره في الطريق المؤدي إلى شارع أبي نواس على ضفاف نهر دجلة، والمؤدي إلى الكرادة الشرقية أو إلى كرادة مريم، الضاحيتين الواقعتين في الطرف الآخر جنوب بغداد بالمقارنة مع الكاظمية التي تقع في الشمال.

وباقتراح من نزار توقفنا ذات مساء في أواخر عام 1947، ونحن في طريقنا من الكاظمية إلى الكرادة الشرقية لزيارة محمد شرارة وعائلته، الصديق التاريخي لحسين مروة. توقفنا في حي الأعظمية في مقهى من نوع خاص كان قد افتتح حديثاً. وكان يحمل اسم «جزيرة الواق واق». وكان يقع بين أمانة العاصمة وقبر الملك فيصل الأول، وبين مقر الإمام الأعظم أبي حنيفة. وهو مقهى كان يرتاده الأدباء والشعراء والفنانون الشباب من أصحاب المدرسة الحديثة في الأدب والفن، شعراً وتشكيلاً ونحتاً وكتابة نقدية. هناك التقيت لأول مرة بالشاعر بلند الحيدري، الذي كان يعرفه نزار، والذي صرت وإياه فيما بعد بدءاً من أواخر الستينات، صديقين حميمين. وكان قد صدر له في ذلك التاريخ أول دواوينه الشعرية «خفقة الطين». وبلند هو من أوائل الذين اقتحموا بشجاعة، ضد التيار السائد، عالم الحداثة في الشعر. كذلك التقيت لأول مرة في المقهى ذاته بالرسام والشاعر نزار سليم شقيق النحات جواد سليم، وبالنحات خالد الرحال وبالشاعر صفاء الحيدري شقيق بلند، وبالناقد ابراهيم اليتيم، الذي كان قد عاد حديثاً من فرنسا بعد انتهاء دراسته الجامعية. وقد توطدت علاقتي مع إبراهيم فيما بعد واستمرت طويلاً. وقد عرفت في حينه أن فكرة المقهى هي من إبداع تلك الشلة من الأدباء والشعراء والفنانين، وأنهم هم الذين اختاروا له ذلك الاسم بالذات، واستأجروه ليكون ملتقى لهم. وأذكر أننا حاولنا، نزار وأنا، في حينه أن نجتهد في تفسير تلك الظاهرة. وتوصلنا إلى استنتاج خاص، اعتبرنا فيه أن تلك المجموعة من الأدباء والفنانين الشباب الواسعي الثقافة كانت مهمومة بالبحث عن التجديد والتحديث وسط صعوبات موضوعية وذاتية. لذلك كان التحدي هو الطابع المميز لحركتهم، ممزوجاً بطموح جارف للتغيير في كل الاتجاهات، تجاوزاً للواقع الذي كان يحيط بهم وتجاوزاً لإمكاناتهم ولإبداعاتهم الثقافية ذاتها. فكانت لقاءاتهم في ذلك المقهى والنقاشات التي كانوا ينخرطون فيها حول نتاجهم الأدبي والفني، وحول ما كان يصدر من نتاج أدبي وفني في أماكن أخرى في العالم العربي وفي العالم، كان ذلك هو شكل التعبير عن وجودهم وعن شخصيتهم المتميزة وعن طموحهم الجارف لتحديد شخصية كل منهم في شكل مختلف عن السائد. لكنهم لم يكونوا وحدهم رواد تلك الحركة. فقد كان في الجانب الآخر من العاصمة أدباء وفنانون آخرون يحملون الهم نفسه. أذكر من الشعراء بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة وأكرم الوتري، الذي انصرف منذ وقت مبكر عن كتابة الشعر إلى شؤون حياته العملية، رغم ما كان يتميز به شعره، كما أذكر، من جمال في الشكل وفي الصور وفي الأفكار. وأذكر من كتاب القصة والرواية عبد الملك نوري، الذي أطلقت عليه في ذلك الحين بعد أن قرأت العديد من قصصه الجميلة، وبعد أن نشأت بيننا صداقة حميمة، لقب «تشيخوف العرب». كما أذكر كاتب القصة ذو النون أيوب الذي كان يكبرهم سناً.

الصفحات