كتاب " نزار مروة في عوامله الثقافية وفي دروب حياته " ، تأليف كريم مروة ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب نزار مروة في عوالمه الثقافية وفي دروب حياته
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
نزار مروة في عوالمه الثقافية وفي دروب حياته
وهل أستطيع أن أنسى أسماء عزيزة وكبيرة مثل الشاعر الجواهري متنبي العصر، والشاعر والمؤرخ اللبناني حسن الأمين، والشاعر كاظم السماوي، والشاعر والفنان نوري الراوي، والأديب عبد القادر البراك، الذي كنا نلتقيه في مقهى حسن عجمي في منطقة الحيدر خانة، والصحافي محمد حسن الصوري صاحب مجلة «الحضارة»، والكاتب والروائي جعفر الخليلي صاحب مجلة «الهاتف» وصاحب المسلسلات الروائية عن عالم الجن، والشاعر والسياسي ورجل الدين الشيخ محمد رضا الشبيبي، والساعاتي والأديب والمحامي العصامي ناجي جواد، وعزيز أبو التمن ابن الزعيم الوطني العراقي جعفر أبو التمن أحد قادة ثورة العشرين، وكامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي ونائبه محمد حديد وحسين جميل وعبد المجيد الونداوي من أركان ذلك الحزب. وهل أستطيع أن أنسى جريدة «الأخبار» وصفحتها الثقافية التي كنا ننشر فيها، نزار وأنا، بعض نتاجاتنا الأدبية القليلة، وبعض الترجمات الشعرية والقصصية عن الفرنسية والإنجليزية. جميع هؤلاء وآخرون كثيرون من أصدقاء «أبي نزار» في الأوساط الثقافية والسياسية والاجتماعية، الذين أصبح عدد منهم أصدقاء لنا بامتياز، شكلوا بالنسبة إليّ وإلى نزار عالماً رائعاً من العلاقات ومصدراً مهماً من مصادر المعرفة التي أسهمت في بناء وتكوين شخصية كل منا بخصوصياتها.
كان من حسن حظنا أننا كنا نجمع، بواسطة «أبي نزار» و«أبي ابراهيم» محمد شرارة، المجد من أطرافه، صداقة الشباب من الأدباء والفنانين والشعراء، وصداقة الجواهري بالذات، وصداقة الكبار الآخرين في ذلك الحين من الشعراء والفنانين والسياسيين أيضاً، ممن ذكرت وممن فاتني ذكر أسمائهم.
كان «أبو نزار» يرقب حركتنا عن كثب وبفرح كبير وباهتمام وبرعاية. وكنا في أيام العطل الأسبوعية وعطل الأعياد نقيم جلسات حوار في دارنا في الكاظمية حول الشؤون العامة التي كانت تشغلنا. وقد كانت جلسات ممتعة وغنية. وكان «أبو نزار» يضفي عليها من روحه المرحة ومن السخرية الجميلة الناعمة التي تعودنا عليها ما يزيدها غنى ومتعة. كانت تشمل تلك الجلسات نقاشات حول قضايا صعبة مترافقة مع تساؤلات بحاجة إلى إجابات. وكان «أبو نزار» يشاركنا البحث عن تلك الإجابات من دون أن يجزم أو يحسم بأي منها، تاركاً لنا الباب مفتوحاً للتفكير من أجل أن نكتشفها بأنفسنا. فإما أن تكون صائبة فيفرح، وإمّا تكون ناقصة فيتدخل لتصويبها. وأذكر أننا ذات يوم عطلة جلسنا كالعادة في مثل تلك الحالات نناقش في أمور عديدة ونتبادل الأحاديث. ويومها، وكان ذلك في كانون الأول من عام 1947، اقترح علينا «أبو نزار» أن ينصرف كل منا إلى كتابة نص إبداعي، ومعنا النهار كله. وعندما عدنا عصر اليوم ذاته للالتقاء كان هو قد كتب قصيدة بعنوان «أطلال قلبـ«. وكان نزار قد كتب قصيدة من الشعر الحديث. أما أنا فقد كتبت حوارية ذهنية من فصل واحد يدور الحوار فيها بين الإنسان والزمن. قصيدة «أبي نزار» نشرت في مجلة «العرفان» اللبنانية. أما حواريتي فنشرت في جريدة «الرأي العام» لصاحبها الجواهري. في حين امتنع نزار عن نشر قصيدته واحتفظ بها لنفسه.
2
كانت دار محمد شرارة في الكرادة الشرقية ملتقى الأدباء والفنانين وملتقى للشخصيات السياسية والاجتماعية أسوة بدار حسين مروة في الكاظمية. وكنا، أبو نزار ونزار وأنا مع سائر أفراد العائلة، وأحياناً نحن الثلاثة لوحدنا، وفي الأغلب نزار وأنا فقط، نذهب لقضاء سهرات أو أيام بلياليها مع العائلة الصديقة المتعددة الهوايات والطباع والعلاقات، من «أبي إبراهيم» محمد شرارة إلى مرتضى شقيقه إلى شقيقته سكنة وبناته مريم وبلقيس وحياة. جميعهم كانوا يحبون الثقافة ويمارسون صنوفاً منها، إبداعاً ونقداً، أو قراءة على الأقل أو نقاشاً في جوانب منها. في تلك اللقاءات، التي تعلقت بها كثيراً واكتسبت منها معارف وأقمت علاقات، تعرفت مع نزار إلى أشخاص كثيرين. لكنني أحتفظ بمكان خاص بين هؤلاء للشاعر بدر شاكر السياب وللشاعرة نازك الملائكة. وقد نشأت بيننا وبين السياب بشكل خاص صداقة عميقة سرعان ما بددها الانقطاع والتباعد والتحولات في المواقف. وكان السياب قد بدأ يطل كشاعر متميز وكمثقف واسع الثقافة. لا يتردد في الجهر بشيوعيته وبانتمائه التنظيمي إلى الحزب الشيوعي، وهو طالب في دار المعلمين العالية، فرع الآداب. وكان واضحاً أنه كان قد بدأ منذ وقت مبكر مع الشعراء والفنانين الذين أشرت إليهم في محاولة إبداع طريقة حديثة في الشعر، هي طريقته الخاصة، متجاوزاً فيها المألوف السائد، لكن من دون تجاوز الموسيقى التي تحددها التفعيلة الجديدة. كان شاعراً حراً لا يتقيد بمفاهيم مسبقة، سواء في المضمون أم في الشكل، رغم حرصه الشديد على الجهر، بأشكال فنية بديعة، بهويته الفكرية. كان السياب، كما فهمنا من وضعه ومن بعض أخباره الخاصة، على علاقة غير طبيعية بعائلته، ربما بسبب أفكاره وبسبب انتمائه إلى الحزب الشيوعي. إذ صار الحزب بالذات مرجعه في كل شيء، حتى في حياته الخاصة. لكنه كان قد بدأ يعاني في ذلك التاريخ من حالة قلق بسبب ذلك الواقع الذي وضعته فيه الظروف. وكان مصدر قلقه خوفه المزدوج من أن يشوه ذلك الواقع علاقته بالحزب وبالشيوعية، وأن يؤثر النمط الذي كان سائداً في الحركة الشيوعية سلباً على حريته وعلى علاقته الطبيعية بالحياة. كان يشكو في ذلك الحين من بعض القياديين في الحزب ومن بعض طرائقهم في فهم طبيعة العلاقة الخاصة المفترضة من قبل الحزب مع المثقفين، فضلاً عن شؤون أخرى، لم أعد أذكرها. كان السياب صادقاً في حياته وفي شعره. وكانت تعبر عن هذا الصدق تفاصيل حياته وشعره ومشاعره الخاصة والعامة وسلوكه وعلاقاته. وكان انطوائياً وخجولاً يكاد لا ينظر مواجهة إلى الشخص الذي يتحدث إليه. كانت شخصيته مليئة بالعقد، لا سيما عقدة العلاقة مع المرأة. وكان نحيل الجسم. وكان أنيقاً في لباسه. ولكم كنا شاهدين في لقاءاتنا، التي تعددت حتى صارت بمستوى الحدث اليومي في حياتنا، على نماذج من ذلك الذي أشرت إليه من عناصر شخصيته. كان يقرأ لنا الشعر بوجد. وكان كل شيء فيه يسهم في القراءة: أطرافه المتمايلة أحياناً والثابتة مثل السكون أحياناً أخرى، ويداه المتحركتان في كل الاتجاهات، وأصابع يديه المنشغلة بتوتر في تحديد المعاني والأماكن الدالة عليها في جسمه بالذات، وفي أماكن أخرى خارج جسمه. كانت حواسه ومشاعره وخلجات قلبه وهواجسه وأحلامه وأفكاره تكاد ترى بالعين المجردة من خلال الانفعالات التي كانت قراءته لأشعاره تثيرها فيه وفي المستمعين إليه. وعندما كانت تحضر معنا الشاعرة لميعة عباس عمارة تلك الجلسات في دار محمد شرارة، وكثيراً ما كانت تحضر إذ كانت تربطها بالعائلة الصديقة علاقة حميمة، فقد كانت نضارة الشباب فيها وتألقها وحيويتها ومرحها النسائي الجميل والخبيث، وما كانت تخفيه عيناها ذات الحور من معان وأسرار، كانت جميعها تثير لدى الشاعر المحب كل المشاعر. فهو كان يحبها، كما كنا نحس من حركاته وانفعالاته تجاهها. وكان صادقاً في حبه كما كنا نتصور، استناداً إلى معرفتنا الدقيقة بصدقه في مواقفه. في حين لم تكن هي كذلك، كما أذكر وكما تشير إلى ذلك الأديبة الراحلة حياة شرارة في تسجيلها الجميل الممتع لوقائع تلك الفترة من حياة عائلتها، في علاقتها الغنية المتميزة بالسياب وبالملائكة وبالوتري وبالحيدري وبعماره وبالجواهري. (ملحق النهار العدد 299-1997). وكثيراً ما كانت تتحول جلساتنا الشعرية تلك بحضور لميعة عمارة إلى جلسات نكات وطرائف وأحاديث لاذعة بالسخرية. ولكم كان يردد السياب قصيدة كان هو يحبها، وكنا نحبها كذلك، وفيها هذا البيت المعروف: