كتاب " نزار مروة في عوامله الثقافية وفي دروب حياته " ، تأليف كريم مروة ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب نزار مروة في عوالمه الثقافية وفي دروب حياته
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
نزار مروة في عوالمه الثقافية وفي دروب حياته
5
كنت منذ الشباب الأول شغوفاً بكل ما يتصل بالثقافة. ورغم أن السياسة والعمل الحزبي قد حرماني من كثير مما كنت أحب أن أعرفه أو أتعرف عليه في مجالات الثقافة، فقد ظل الهاجس الثقافي يشغلني. لذلك كنت أدخل في نقاشات كثيرة مع نزار حول مواضيع ثقافية عديدة مستفيداً من قراءاته وسعة معارفه الموسوعية في شتى فروع الأدب والفن وفي التراث، وفي العلوم والاكتشافات العلمية. وكنت أتابع معه لقاءات مع مؤلفين موسيقيين ومخرجين مسرحيين. ومعه، ومع محمد دكروب، تعرفت لأول مرة إلى عاصي ومنصور الرحباني. ومن خلال نزار أعدت علاقة قديمة مع نصري شمس الدين الذي كان في أواسط الأربعينات يعلمنا الموسيقى في المدرسة الجعفرية في صور. وأهم ما أعتز به في علاقتي الثقافية مع نزار حضورنا المشترك لمسرحيات الرحابنة عندما كانت تتوافر لدي الفرص لذلك. وأذكر أنني ترجمت إحدى قصائد مسرحية «جسر القمر» إلى الفرنسية ونشرتها في المجلة التي كان يصدرها مجلس السلم العالمي، وذهبت برفقة نزار ودكروب إلى مكتب الرحابنة في محلة بدارو وأطلعتهم على المجلة التي تحمل ترجمة «كنز الكنوز» المأخوذة من مسرحية «جسر القمر». كان اللقاء حميماً. لكن الظروف لم تتح لي تكرار تلك اللقاءات مع الرحابنة. فلم تتوطد العلاقة الشخصية بيني وبينهم في ذلك التاريخ. لكن صداقة حميمة نشأت لي مع منصور في مطالع تسعينات القرن، واستمرت حتى وفاته. وسجلت في مقال لي مطول عن الرحابنة ما علق في ذاكرتي بتلك العلاقة مع الرحابنة، عاصي ومنصور وفيروز. إلا أنني كنت كثيراً ما أدخل في نقاش فني وأدبي وسياسي كلما كنا نخرج، نزار وأنا، من حضور مسرحية من مسرحيات الرحابنة. وكان نزار شديد التقدير لهم ولإبداعاتهم. وكانوا يحبونه ويثقون بآرائه ويستفيدون من بعض ملاحظاته. فيجرون بعض التعديلات استناداً إليها. لقد كان مرجعاً حقيقياً في النقد الموسيقي. وكان كعادته شديد الحذر إزاء الإطلاق في الأحكام. إذ كانت لديه مع التقدير لفن الرحابنة ملاحظات دونها في كتاباته العديدة عنهم لا تنحصر في الموسيقى والشعر أو العمل المسرحي، بل تتناول العلاقة بين كل مكونات المسرح الغنائي في أعمالهم وفي أعمال موسيقيين عرب آخرين. ذلك أنه لم يكن يخفي، ولم يكن يستطيع أن يخفي، ثقافته الموسيقية التي جعلته، عن وعي غالباً وعن غير قصد أحياناً، يقارن بين ما يرى من عمل مسرحي غنائي في بلادنا وبين الأوبريت والأوبرا والأعمال الموسيقية لكبار الموسيقيين، لكن من دون تعسف ومن دون إسقاطات، آخذاً في الاعتبار الشروط التاريخية التي كان يتم فيها إنتاج العمل الفني في بلادنا. وهي شروط ذات خصوصية ولها علاقة بمستوى التطور في كل المجالات وليس في مجال واحد فقط هو الموسيقى والثقافة والتراث الموسيقيان. كان نزار مهموماً بالموسيقى وبالعمل لجعلها تصل بكل الوسائل إلى أذواق الجمهور الواسع على اختلاف مستوياته الثقافية، انطلاقاً من قناعة عنده بأن مثل تلك الثقافة الموسيقية بأبسط أشكالها تسهم في تهذيب الذوق والنفس، وفي تحصين الثقافة والتراث في بلادنا ضد أخطار التشويه والتزييف التي يحملها إلى بلداننا تجار الثقافة في الداخل والخارج.
على قاعدة تلك الثقافة ومتابعة منه لتلك الهموم، وتلبية للطموح عنده إلى التطور والاغتناء، كان نزار يرقب الحركة الموسيقية وحركة المسرح الغنائي وحركة الأغنية الشعبية وكل الحركة الأدبية والفنية. فكان قاسياً ومتسامحاً في آن. وهذا ما نستطيع أن نلحظه في كل ما كتبه. وما كتبه قليل تناول فيه أعمال الموسيقيين اللبنانيين والعرب الكبار. كما تناول أعمال الشباب الناشئين منهم بوجه خاص. وكتاباته تلك كانت موزعة بشكل محدد بين جريدتي «الأخبار» و«النداء» ومجلّتي «الطريق» و«الثقافة الوطنية». وقليلاً ما كتب خارج تلك المنابر. ذلك أنه كان لفترات زمنية طويلة متقطعة مسؤولاً عن الصفحة الثقافية في «النداء» و«الأخبار». ثم أصبح مدير التحرير في مجلة «الطريق» في السنوات التي سبقت وفاته. وكانت كتاباته في الموسيقى تحديداً مرجعاً للموسيقيين من كل الأجيال كما أشرت إلى ذلك آنفاً.
أنشأ في إذاعة «صوت الشعبـ« أكثر من برنامج موسيقي تحت أسماء مختلفة: «أصوات من الضفة الأخرى» و«وقت الموسيقى» وحوارات مع موسيقيين معروفين. وكان بعض تلك البرامج مكرساً لتسهيل عملية الاستماع للموسيقى والاستمتاع بها من خلال بعض الشروحات المرفقة بالنماذج الموسيقية الدالة عليها. وكان بعض آخر من تلك البرامج مكرساً لإلقاء الضوء على بعض الأعمال الموسيقية غير المعروفة لموسيقيين عرب في الزمنين القديم والمعاصر. وكنت من المدمنين على الاستماع إلى تلك البرامج إضافة إلى أنني كنت أعود إلى الحديث عن بعض فقرات منها مع نزار لمزيد من المعرفة والوضوح.
توطدت علاقة نزار بالرحابنة خصوصاً، وبآخرين من المبدعين في التأليف الموسيقي، لا سيما مع توفيق الباشا وعبد الغني شعبان ووليد غلمية في لبنان ومع آخرين من البلدان العربية أذكر منهم منير بشير. وكانوا جميعهم يحترمونه ويقدرون ثقافته الموسيقية ويستمعون باهتمام إلى ملاحظاته وآرائه ونقده الناعم لما كانوا يقدمونه من إبداعات في عالم التأليف الموسيقي وفي تلحين الأغاني الشعبية. وأستشهد هنا بآراء أربعة من أصدقائه من كبار الموسيقيين في لبنان، هم توفيق الباشا ومنصور الرحباني ووليد غلمية وزياد الرحباني. يقول توفيق الباشا: «كان نزار، عندما يقدَّر له أن يقوِّم عملاً موسيقياً، يتجرد من ميولـه الشخصية وذوقه الخاص. إذ هو يقوم بمهمته كناقد ومصحح ومنوِّر للعمل الفني ولمبدعه والمستمع إليه. ومن تتبُّع طريقته في النقد الفني الموسيقي كنت أرى نزار وكأنه مشارك في إبداع العمل الموسيقي الذي يقرأه سماعاً. فهو ينفذ إلى داخلية العمل ولا يتوقف عند البهرجة الكلامية والصخب الآلاتي الخارجي. لقد انحاز نزار إلى الموسيقى الكبيرة التي خلق عباقرتها في العالم الروائع الموسيقية الكبرى. وكان طموحه أن يُتاح للعاملين في حقل التأليف الموسيقي في بلداننا أن يبدعوا أمثال تلك الروائع ارتباطاً، بالطبع، بتراثنا وبتقاليدنا الموسيقية في أرضنا وناسنا وتاريخنا ونفوسنا. ولهذا كرَّس علمه وثقافته للنقد الموسيقي ولأدبيات الموسيقى المعاصرة، قاصداً، بذلك، الإسهام مع مبدعي الموسيقى في خلق جو من اللقاء المستمر بين المؤلف والمتلقِّي، عبر مختلف الوسائل الإعلامية والمنبرية، ودائماً بهدف التنوير الجماهيري وإشاعة التذوق الموسيقي الراقي».