كتاب " نزار مروة في عوامله الثقافية وفي دروب حياته " ، تأليف كريم مروة ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب نزار مروة في عوالمه الثقافية وفي دروب حياته
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
نزار مروة في عوالمه الثقافية وفي دروب حياته
مدخل
إلى عالم نزار مروة في ما يشبه السيرة
كريم مروة
1
ما أكتبه هنا عن نزار مروة لا يدخل في إطار الدراسة لتراثه الثقافي، ولا حتى في إطار الدراسة لسيرته. إنه نوع من تداعي الذكريات تجتمع فيه أحداث صغيرة وكبيرة، مهمة وغير مهمة، توحد بينها علاقة صداقة نشأت بيني وبينه منذ الطفولة والشباب الباكر، وامتدت طوال العمر. وإذ أستل تلك الأحداث من مخزون ذاكرة لا تزال تحتفظ بحيويتها، رغم عبء السنين، فلأنني أشعر، من تلقاء ذاتي، وبفعل إلحاح الذكريات ذاتها، بضرورة جمع تلك الأحداث بتفاصيلها، وإخراجها إلى النور، وتحريرها من وحشة الوحدة داخل أسوار الذاكرة قبل أن تنهار هذه الأسوار بفعل العمر، ويحكم عليها النسيان الأبدي. وأزعم أن في هذا النوع من الكتابة، عن هذا النوع من الأحداث المبعثرة التي توحد بينها هذه العلاقة الحميمة الطويلة بين هذين النسيبين الصديقين، تحمل في نشرها بعض الفائدة، لأنها تشبه، بمعنى ما، سيرة نزار وبعضاً من سيرتي.
لقد تعرفت إلى نزار قبل أن ألتقيه؛ التقينا في البدء لفترات قصيرة، في أيام الطفولة، عندما كان والده «الشيخ» حسين يأتي بعمامة رجل الدين وزيه مع العائلة لقضاء عطلة الصيف بين قريتنا حاريص وقريتهم حداثا الجارتين الحميمتين من قرى جبل عامل في قضاء بنت جبيل. وكنا، أو كدنا، ننسى بعضنا لطول المسافة الزمنية الفاصلة بين اللقاء والآخر. لكننا ظللنا نلتقي، عبر الصور والرسائل التي كان يرسلها والده الشيخ حسين لوالدي الشيخ أحمد، ابن عمه وراعي طفولته والوصي عليه بعد وفاة والده الشيخ علي المرجع الشيعي الكبير في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وتكونت لدي عن نزار، ولدى نزار عني، صورة فيها شيء من الواقع والكثير من نسج الخيال. لكن المعرفة الحقيقية لكل منا بالآخر بدأت عندما التقينا في الكاظمية في العراق في أواخر عام 1947. فقد أرسلني والدي بسبب ظروف الحياة الصعبة التي كانت العائلة تعانيها، وبسبب تعثر دراستي في صور، إلى كنف ابن عمه «أبي نزار» لمتابعة دراستي العلمية هناك برعايته. كان «أبو نزار» قد خلع، في عام 1938، زي رجل الدين وعمامة الشيخ ليصبح أستاذاً للفلسفة والأدب، متنقلاً بين مدن العراق المختلفة، ومدارسها وكلياتها، وليصبح في الوقت ذاته كاتباً معروفاً تتسابق الصحف والمجلات على التعاقد والاتفاق معه. كان ذلك العمل المضني مصدر متعة بالنسبة إليه، كما كان يصرح لنا ولأصدقائه الكثر، ومصدر غنى لثقافته. لكنه كان في الوقت ذاته مصدر إرهاق له، ومصدر توتر دائم لم يكن من الصعب علينا ملاحظته. وقد كان استقبال العائلة لي رائعاً فور وصولي إلى الكاظمية. اندمجت بسرعة وسط هذا التعدد والتنوع في الطباع والأمزجة في حياة جديدة داخل بيت تميز بالغنى في الثقافة وفي الهوايات وفي العلاقات. وأصبحت من دون صعوبة قريباً من نزار ومن بعض اهتماماته. ثم صرنا منذ ذلك الحين صديقين ورفيقي عمر. وستبقى تلك الصداقة ورفقة العمر هي ذاتها برغم الموت الذي فرقنا، وغصباً عنه.
وأعترف هنا بأنني قررت، بوعي كامل، منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها إلى دار حسين مروة، أن أتعلم، ليس من «أبي نزار» معلمنا جميعنا فقط، بل من نزار بالذات، رغم أنني كنت أكبره بعام ونيف. مصدر ذلك القرار وسببه المباشر، هو أنني اكتشفت أن ما كنت قد كونته من ثقافة خلال المرحلة المتوسطة من دراستي في مدارس صور وبوسائلي الخاصة، مع أصدقاء شبابي الأول وهم كثر، وعبر الكتب العديدة لكتاب تلك المرحلة اللبنانيين والعرب، ومن خلال المجلات التي كانت تصدر في لبنان ومصر، وعبر صداقات نشأت بيني وبين بعض أساتذتي في ذلك الحين في أواسط الأربعينات، هذه الثقافة لم تكن بمستوى ما كان هذا البيت الثقافي، بيت «أبي نزار»، يحفل به من غنى وتنوع وعمق. قررت أن أتعلم، من دون عقد، من نزار. وبدأت معه اقتحام طريق خاص إلى الحياة. وكان ذلك الطريق صعباً. إذ كان يحتاج منا أن نبحث عن المعرفة حيث هي، في كتاب أو في مجلة أو في منتدى أو عند شخص معين. واخترنا الثقافة مدخلاً إلى تكوين شخصية كل منا والارتقاء بوعيه. وجعلناها طريقنا إلى تحقيق أحلامنا ومطامحنا. كان لكل منا أسلوبه ومنطقه وشكل علاقاته بالأحداث وبالناس وبالأشياء. وكانت لكل منا طباعه الخاصة واهتماماته وهواجسه وأمزجته المتبدلة. فلم ننقل عن «أبي نزار» نقلاً حرفياً أياً من صفاته واهتماماته، وأياً من أفكاره، بل حتى أياً من علاقاته، رغم كل ما تركه في تربيتنا وثقافتنا من تأثير عميق وراسخ. كان في أساس ذلك القرار الاختلاف الذي يستطيع أي من أصدقائنا، نزار وأنا، ومن أصدقاء «أبي نزار»، أن يلحظه، سواء في شخصية نزار وفي التراث الإنساني والثقافي الذي تركه لنا، ، أم فيما يتعلق بي، بالمقارنة مع شخصية «أبي نزار» وتراثه الإنساني والثقافي.